صفحة جزء
المطلب الثالث : أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل ، لأن الإنسان حال كونه مستحضرا للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضرا للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى ، والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلبا لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى ، وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق ، فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله . ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره ، والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلا لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلا عند إبراهيم عليه السلام ، وإذا كان حاصلا عنده امتنع طلب تحصيله ، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي ، وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة [ ص: 129 ] في القلب . ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال ، ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر .

المطلوب الثاني : قوله : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) وفيه ثلاث تأويلات :

التأويل الأول : أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم ، ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة ، فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية ، أما الداخلية : فهي الخلق الظاهر والخلق الباطن والخلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية ، فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن ، وهو المراد بقوله : ( وألحقني بالصالحين ) وأما الخارجية : فهي المال والجاه ، والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر ، وهو المراد بقوله : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : وقد أعطاه ذلك بقوله : ( وتركنا عليه في الآخرين ) [ الصافات : 108 ] فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح ؟ جوابه من وجهين :

الأول : وهو على لسان الحكمة : أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفا فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه ، وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية ، إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثني عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه ، فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سببا لحصول زيادة كمال له .

الثاني : وهو على لسان الكمال : أن من صار ممدوحا فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل ، فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعيا لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل .

التأويل الثاني : أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى الله تعالى ، وذلك هومحمد صلى الله عليه وسلم فالمراد من قوله : ( واجعل لي لسان صدق في الآخرين ) بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .

التأويل الثالث : قال بعضهم : المراد اتفاق أهل الأديان على حبه ، ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتولون إبراهيم عليه السلام ، وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه : أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر ، بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب .

المطلوب الثالث : قوله : ( واجعلني من ورثة جنة النعيم ) اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم ، وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا ، فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا .

المطلوب الرابع : قوله : ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه فقال : ( واغفر لأبي ) ثم فيه وجوه :

الأول : أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله : ( واغفر لأبي ) يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام .

الثاني : أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن [ ص: 130 ] موعدة وعدها إياه ) [ التوبة : 114 ] فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط ( فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ) [ التوبة : 114 ] وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطا لما منعه الله عنه .

الثالث : أن أباه قال له : إنه على دينه باطنا وعلى دين نمروذ ظاهرا تقية وخوفا ، فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه ، لذلك قال في دعائه : ( إنه كان من الضالين ) فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك .

المطلوب الخامس : قوله : ( ولا تخزني يوم يبعثون ) قال صاحب " الكشاف " : الإخزاء من الخزي وهو الهوان ، أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث :

أحدها : أن قوله : ( ولا تخزني ) يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) .

وثانيها : أن لقائل أن يقول لما قال أولا : ( واجعلني من ورثة جنة النعيم ) ومتى حصلت الجنة امتنع حصول الخزي ، فكيف قال بعده : ( ولا تخزني يوم يبعثون ) وأيضا فقد قال تعالى : ( إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ) [ النحل : 27 ] فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم ؟ جوابه : كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به .

وثالثها : قال صاحب " الكشاف " : في [ يبعثون ] ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين .

التالي السابق


الخدمات العلمية