صفحة جزء
( واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير )

لما قال : ( ولا تمش في الأرض مرحا ) وعدم ذلك قد يكون بضده وهو الذي يخالف غاية الاختلاف ، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدا ، فقال : ( واقصد في مشيك ) أي كن وسطا بين الطرفين المذمومين ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : هل للأمر بالغض من الصوت مناسبة مع الأمر بالقصد في المشي ؟ فنقول : نعم . سواء علمناها نحن أو لم نعلمها ، وفي كلام الله من الفوائد ما لا يحصره حد ولا يصيبه عد ، ولا يعلمه أحد ، والذي يظهر وجوه :

الأول : هو أن الإنسان لما كان شريفا تكون مطالبه شريفة ، فيكون فواتها خطرا ، فأقدر الله [ ص: 132 ] الإنسان على تحصيلها بالمشي ، فإن عجز عن إدراك مقصوده ، ينادي مطلوبه فيقف له أو يأتيه مشيا إليه ، فإن عجز عن إبلاغ كلامه إليه ، وبعض الحيوانات يشارك الإنسان في تحصيل المطلوب بالصوت ، كما أن الغنم تطلب السخلة ، والبقرة العجل ، والناقة الفصيل بالثغاء والخوار والرغاء ، ولكن لا تتعدى إلى غيرها ، والإنسان يميز البعض عن البعض ، فإذا كان المشي والصوت مفضيين إلى مقصود واحد لما أرشده إلى أحدهما أرشده إلى الآخر .

الثاني : هو أن الإنسان له ثلاثة أشياء ؛ عمل بالجوارح يشاركه فيه الحيوانات ، فإنه حركة وسكون ، وقول باللسان ولا يشاركه فيه غيره ، وعزم بالقلب وهو لا اطلاع عليه إلا لله ، وقد أشار إليه بقوله : ( إنها إن تك مثقال حبة من خردل ) أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، بقي الأمران ، فقال : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال .

الثالث : هو أن لقمان أراد إرشاد ابنه إلى السداد في الأوصاف الإنسانية ، والأوصاف التي هي للملك الذي هو أعلى مرتبة منه ، والأوصاف التي للحيوان الذي هو أدنى مرتبة منه ، فقوله : ( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) إشارة إلى المكارم المختصة بالإنسان ، فإن الملك لا يأمر ملكا آخر بشيء ولا ينهاه عن شيء .

وقوله : ( ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا ) الذي هو إشارة إلى عدم التكبر والتبختر إشارة إلى المكارم التي هي صفة الملائكة ، فإن عدم التكبر والتبختر صفتهم . وقوله : ( واقصد في مشيك واغضض من صوتك ) إشارة إلى المكارم التي هي صفة الحيوان . ثم قال تعالى : ( إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ، نقول : أما على قولنا : إن المشي والصوت كلاهما موصلان إلى شخص مطلوب إن أدركه بالمشي إليه فذاك ، وإلا فيوقفه بالنداء ، فنقول : رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة ، وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن . وأما السرعة في المشي فلا تؤذي أو إن كانت تؤذي فلا تؤذي غير من في طريقه ، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ; ولأن المشي يؤذي آلة المشي ، والصوت يؤذي آلة السمع ، وآلة السمع على باب القلب ، فإن الكلام ينتقل من السمع إلى القلب ، ولا كذلك المشي . وأما على قولنا : الإشارة بالشيء والصوت إلى الأفعال والأقوال ؛ فلأن القول قبيحه أقبح من قبيح الفعل ، وحسنه أحسن ; لأن اللسان ترجمان القلب ، والاعتبار يصحح الدعوى .

المسألة الثانية : كيف يفهم كونه أنكر مع أن مس المنشار بالمبرد وحت النحاس بالحديد أشد تنفيرا ؟ نقول الجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أن المراد أن أنكر أصوات الحيوانات صوت الحمير فلا يرد ما ذكرتم ، وما ذكرتم في أكثر الأمر لمصلحة وعمارة فلا ينكر ، بخلاف صوت الحمير وهذا ، وهو الجواب الثاني .

المسألة الثالثة : أنكر هو أفعل التفضيل ، فمن أي باب هو ؟ نقول : يحتمل أن يكون من باب أطوع له من بنانه ، بمعنى أشدها طاعة ، فإن أفعل لا يجيء في مفعل ولا في مفعول ولا في باب العيوب إلا ما شذ ، كقولهم : أطوع من كذا للتفضيل على المطيع ، وأشغل من ذات النحيين للتفضيل على المشغول ، وأحمق من فلان من باب العيوب ، وعلى هذا فهو في باب أفعل كأشغل في باب مفعول ، فيكون للتفضيل على المنكر ، أو نقول : هو من باب أشغل مأخوذا من نكر الشيء فهو منكر ، وهذا أنكر منه ، وعلى هذا فله معنى لطيف ، وهو أن كل حيوان قد يفهم من صوته بأنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو غير ذلك ، والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ، ولو قتل لا يصيح ، وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق ، فصوته منكور ، ويمكن أن يقال : هو من نكير ، كأجدر من جدير .

التالي السابق


الخدمات العلمية