صفحة جزء
( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) .

قوله تعالى : ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ) .

اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله : ( وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب ) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث :

أولها : تتعلق بالإلهيات ، وهو قوله : ( أجعل الآلهة إلها واحدا )

والثانية : تتعلق بالنبوات ، وهو قوله : ( أؤنزل عليه الذكر من بيننا ) .

والثالثة : تتعلق بالمعاد ، وهو قوله تعالى : ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر ، فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته ، والقط القطعة من الشيء لأنه قطع منه ، من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط ، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد المؤمنين بالجنة ، قالوا على سبيل الاستهزاء : عجل لنا نصيبنا من الجنة ، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها .

واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : ( هذا ساحر كذاب ) وقالوا له على سبيل الاستهزاء : ( عجل لنا قطنا ) أمره الله بالصبر على سفاهتهم ، فقال : ( اصبر على ما يقولون ) فإن قيل : أي تعلق بين قوله : ( اصبر على ما يقولون ) وبين قوله : ( واذكر عبدنا داود ) ؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه :

الأول : كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جراءتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر ، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن يوم الحشر ، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا .

والثاني : كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك ، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك .

والثالث : أن للناس في قصة داود قولين : منهم من قال إنها تدل [ ص: 161 ] على ذنبه ، ومنهم من قال : إنها لا تدل عليه . ( فمن قال بالأول ) كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا ، لأن الكفار يكذبونك ، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ، ولا شك أن حزنه أشد ، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ( ومن قال بالثاني ) قال : الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر ، وإنما دخلا عليه لقصد قتله فخاف منهما داود ، ومع ذلك لم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء ، بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة ، فلا جرم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق .

والخامس : أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير ، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود ، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم ، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا .

والسادس : أن قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ) غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال : ( اصبر على ما يقولون ) واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص ، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان ، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا ، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام ، وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم ، وسيجيء ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ص : 29] واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء ، فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال .

فالقصة الأولى : قصة داود ، واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام .

فالأول : تفصيل ما آتى الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا .

والثاني : شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين .

والثالث : استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة .

أما النوع الأول : وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشر .

الأول : قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ) فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به في مكارم الأخلاق .

والثاني : أنه قال في حقه : ( عبدنا داود ) فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم ، وذلك غاية التشريف ، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدا عليه السلام ليلة المعراج قال : ( سبحان الذي أسرى بعبده ) [الإسراء : 1] فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلا على علو درجته أيضا ، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة .

والثالث : قوله : ( ذا الأيد ) أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي ، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح ، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهي عنه و ( الأيد ) المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله : ( يايحيى خذ الكتاب بقوة ) [مريم : 12] وقوله تعالى : ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة ) [الأعراف : 145] أي : باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة ، وترك إظهار الوهن والضعف ، و" الأيد " والقوة سواء ، ومنه قوله تعالى : ( هو الذي أيدك بنصره ) [الأنفال : 62] وقوله تعالى : ( وأيدناه بروح القدس ) [البقرة : 87] وقال : ( والسماء بنيناها بأيد ) [الذاريات : 47] وعن [ ص: 162 ] قتادة أعطي قوة في العبادة وفقها في الدين ، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر .

الرابع : قوله : ( إنه أواب ) أي أن داود كان رجاعا في أموره كلها إلى طاعتي ، والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى : ( إن إلينا إيابهم ) [الغاشية : 25] وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب .

الخامس : قوله تعالى : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ياجبال أوبي معه والطير ) [سبأ : 10] وفيه مباحث :

البحث الأول : وفيه وجوه :

الأول : أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلا وقدرة ومنطقا ، وحينئذ صار الجبل مسبحا لله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : ( فلما تجلى ربه للجبل ) [الأعراف : 143] فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلا وفهما ، ثم خلق فيه رؤية الله تعالى ، فكذا ههنا .

الثاني : في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال : إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن ، وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحا ، وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتى إنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يأخذ بأعناقها .

الثالث : أن الله سبحانه سخر الجبال حتى إنها كانت تسير إلى حيث يريده داود ، وجعل ذلك السير تسبيحا لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته .

البحث الثاني : قال صاحب "الكشاف" ( يسبحن ) في معنى مسبحات ، فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات ؟ قلنا : نعم ، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث والتجدد ، وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( يسبحن ) يدل على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال ، وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح .

البحث الثالث : قال الزجاج : يقال شرقت الشمس إذا طلعت ، وأشرقت إذا أضاءت ، وقيل هما بمعنى ، والأول أكثر ، تقول العرب : شرقت الشمس والماء يشرق .

البحث الرابع : احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية ، عن أم هانئ قالت : "دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى ، وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " وعن طاوس عن ابن عباس قال : "هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن ؟ قالوا : لا ، فقرأ ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) وقال كان يصليها داود عليه السلام ، وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله : ( يسبحن بالعشي والإشراق ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية