وأما قوله : ( 
إلا عبادك منهم المخلصين   ) ففيه فوائد : 
الفائدة الأولى : قيل : غرض إبليس من ذكره هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب ، لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء ، وادعى أنه يغوي الكل ، لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين ، فكأن إبليس قال : إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام ، وعن هذا يقال : إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس ، فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه ؟ فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : ( 
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته   ) [ الحج : 52 ] ؟ قلنا : إن إبليس لم يقل : إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين ، بل قال : لأغوينهم ، وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم . 
الفائدة الثانية : هذه الآية تدل على أن 
إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين ، وقال تعالى في صفة 
يوسف    : ( 
إنه من عبادنا المخلصين   ) [ يوسف : 24 ] فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوى 
يوسف  عليه السلام ، وذلك يدل على كذب 
الحشوية  فيما ينسبون إلى 
يوسف  عليه السلام من القبائح .  
[ ص: 205 ] واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى : ( 
فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة ( 
فالحق   ) بالرفع ( 
والحق   ) بالنصب ، والباقون بالنصب فيهما . أما الرفع فتقديره : فالحق قسمي ، وأما النصب فعلى القسم ، أي : فبالحق ، كقولك : والله لأفعلن . وأما قوله : ( 
والحق أقول   ) انتصب قوله : " والحق " بقوله : ( 
أقول   ) . 
المسألة الثانية : قوله : ( 
منك   ) أي : من جنسك ، وهم الشياطين ( 
وممن تبعك منهم   ) من ذرية 
آدم  ، فإن قيل : قوله ( 
أجمعين   ) تأكيد لماذا ؟ قلنا : يحتمل أن يؤكد به الضمير في " منهم " ، أو الكاف في " منك " مع " من تبعك " ، ومعناه : لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين ، لا أترك منهم أحدا . 
المسألة الثالثة : احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه : 
الأول : أنه تعالى قال في حق إبليس : ( 
فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين   ) فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن ، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذبا ، وهو محال ، فكان صدور الإيمان منه محالا مع أنه أمر به . 
والثاني : أنه قال : ( 
فبعزتك لأغوينهم أجمعين   ) فالله تعالى علم منه أنه يغويهم ، وسمع منه هذه الدعوى ، وكان قادرا على منعه عن ذلك ، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضيا به ، فإن قالوا : لعل ذلك المنع مفسد ، قلنا : هذا قول فاسد ، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال ، ويخلص بني آدم عن الضلال ، وهذا عين المصلحة . 
الثالث : أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة ، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى . 
الرابع : أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقي الأنبياء والصالحين ، وأن يميت إبليس والشياطين ، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد . 
الخامس : أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون ألبتة ، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، والله أعلم .