صفحة جزء
( جزاء لمن كان كفر )

وقوله تعالى : ( جزاء لمن كان كفر ) يحتمل وجوها :

أحدها : أن يكون نصبه بقوله : ( وحملناه ) أي حملناه جزاء ، أي ليكون ذلك الحمل جزاء الصبر على كفرانهم .

وثانيها : أن يكون بقوله : ( تجري بأعيننا ) لأن فيه معنى حفظنا ، أي : ما تركناه عن أعيننا وعوننا جزاء له .

ثالثها : أن يكون بفعل حاصل من مجموع ما ذكره كأنه قال : فتحنا أبواب السماء وفجرنا الأرض عيونا وحملناه ، وكل ذلك فعلناه جزاء له ، وإنما ذكرنا هذا ؛ لأن الجزاء ما كان يحصل إلا بحفظه وإنجائه لهم ، فوجب أن يكون " جزاء " منصوبا بكونه مفعولا له بهذه الأفعال ، ولنذكر ما فيه من اللطائف في مسائل :

المسألة الأولى : قال في السماء : ( ففتحنا أبواب السماء ) لأن السماء ذات الرجع وما لها فطور ، ولم يقل : وشققنا السماء ، وقال في الأرض : ( وفجرنا الأرض ) لأنها ذات الصدع . [ ص: 36 ]

الثانية : لما جعل المطر كالماء الخارج من أبواب مفتوحة واسعة ، ولم يقل في الأرض وأجرينا من الأرض بحارا وأنهارا ، بل قال : ( عيونا ) والخارج من العين دون الخارج من الباب ذكر في الأرض أنه تعالى فجرها كلها ، فقال : ( وفجرنا الأرض ) لتقابل كثرة عيون الأرض سعة أبواب السماء فيحصل بالكثرة هاهنا ما حصل بالسعة هاهنا .

الثالثة : ذكر عند الغضب سبب الإهلاك وهو فتح أبواب السماء وفجر الأرض بالعيون ، وأشار إلى الإهلاك بقوله تعالى : ( على أمر قد قدر ) أي : أمر الإهلاك ولم يصرح ، وعند الرحمة ذكر الإيحاء صريحا بقوله تعالى : ( وحملناه ) وأشار إلى طريق النجاة بقوله : ( ذات ألواح ) وكذلك قال في موضع آخر : ( فأخذهم الطوفان ) ولم يقل : فأهلكوا ، وقال : ( فأنجيناه وأصحاب السفينة ) فصرح بالإنجاء ولم يصرح بالإهلاك إشارة إلى سعة الرحمة وغاية الكرم ، أي : خلقنا سبب الهلاك ولو رجعوا لما ضرهم ذلك السبب كما قال صلى الله عليه وسلم : ( يابني اركب معنا ) [ هود : 42 ] وعند الإنجاء أنجاه وجعل للنجاة طريقا وهو اتخاذ السفينة ولو انكسرت لما ضره بل كان ينجيه ، فالمقصود عند الإنجاء هو النجاة ، فذكر المحل ، والمقصود عند الإهلاك إظهار البأس فذكر السبب صريحا .

الرابعة : قوله تعالى : ( تجري بأعيننا ) أبلغ من حفظنا ، يقول القائل : اجعل هذا نصب عينك ولا يقول : احفظه طلبا للمبالغة .

الخامسة : ( بأعيننا ) يحتمل أن يكون المراد بحفظنا ، ولهذا يقال : الرؤية لسان العين .

السادسة : قال : كان ذلك جزاء على ما كفروا به لا على إيمانه وشكره فما جوزي به كان جزاء صبره على كفرهم ، وأما جزاء شكره لنا فباق ، وقرئ : " جزاء " بكسر الجيم أي : مجازاة كقتال ومقاتلة وقرئ : " لمن كان كفر " بفتح الكاف ، وأما : ( كفر ) ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون كفر مثل شكر يعدى بالحرف وبغير حرف يقال : شكرته وشكرت له ، قال تعالى : ( واشكروا لي ولا تكفرون ) [ البقرة : 152 ] وقال تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ) [ البقرة : 256 ] .

ثانيهما : أن يكون من الكفر لا من الكفران أي : جزاء لمن ستر أمره وأنكر شأنه ، ويحتمل أن يقال : كفر به وترك لظهور المراد .

التالي السابق


الخدمات العلمية