[ ص: 179 ]   [ سورة الحديد ] 
وهي تسع وعشرون آية مكية 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( 
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم   ) . 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( 
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم   ) وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : 
التسبيح تبعيد الله تعالى من السوء ، وكذا التقديس من سبح في الماء وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد . 
واعلم أن التسبيح عن السوء يدخل فيه تبعيد الذات عن السوء ، وتبعيد الصفات وتبعيد الأفعال ، وتبعيد الأسماء وتبعيد الأحكام ، أما في الذات : فأن لا تكون محلا للإمكان ، فإن السوء هو العدم وإمكانه ، ثم نفي الإمكان يستلزم نفي الكثرة ، ونفيها يستلزم نفي الجسمية والعرضية ، ونفي الضد والند وحصول الوحدة المطلقة . وأما في الصفات : فأن يكون منزها عن الجهل بأن يكون محيطا بكل المعلومات ، ويكون قادرا على كل المقدورات ، وتكون صفاته منزهة عن التغيرات . وأما في الأفعال : فأن تكون فاعليته موقوفة على مادة ومثال ؛ لأن كل مادة ومثال فهو فعله ، لما بينا أن كل ما عداه فهو ممكن ، وكل ممكن فهو فعله ، فلو افتقرت فاعليته إلى مادة ومثال ، لزم التسلسل ، وغير موقوفة على زمان ومكان ؛ لأن كل زمان فهو مركب من أجزاء منقضية ، فيكون ممكنا ، كل مكان فهو يعد ممكنا مركبا من أفراد الأحياز ، فيكون كل واحد منهما ممكنا ومحدثا ، فلو افتقرت فاعليته إلى زمان وإلى مكان ، لافتقرت فاعلية الزمان والمكان إلى زمان ومكان ، فيلزم التسلسل ، وغير موقوفة على جلب منفعة ، ولا دفع مضرة ، وإلا لكان مستكملا بغيره ناقصا في ذاته ، وذلك محال . وأما في الأسماء : فكما قال : ( 
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها   ) [ الأعراف : 180 ] . وأما في الأحكام : فهو أن 
كل ما شرعه فهو مصلحة وإحسان وخير ، وأن كونه فضلا وخيرا ليس على سبيل الوجوب عليه ، بل على سبيل الإحسان ، وبالجملة يجب أن يعلم من هذا الباب أن حكمه وتكليفه لازم لكل أحد ، وأنه ليس لأحد عليه حكم ولا تكليف ولا يجب لأحد عليه شيء أصلا ، فهذا هو ضبط معاقد التسبيح . 
المسألة الثانية : جاء في بعض الفواتح ( سبح ) على لفظ الماضي ، وفي بعضها على لفظ المضارع ، وذلك إشارة إلى أن كون هذه الأشياء مسبحة غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبدا في   
[ ص: 180 ] الماضي ، وتكون مسبحة أبدا في المستقبل ، وذلك لأن كونها مسبحة صفة لازمة لماهياتها ، فيستحيل انفكاك تلك الماهيات عن ذلك التسبيح ، وإنما قلنا : إن هذه المسبحية صفة لازمة لماهياتها ؛ لأن كل ما عدا الواجب ممكن ، وكل ممكن فهو مفتقر إلى الواجب ، وكون الواجب واجبا يقتضي تنزيهه عن كل سوء في الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء على ما بيناه ، فظهر أن هذه المسبحية كانت حاصلة في الماضي ، وتكون حاصلة في المستقبل ، والله أعلم . 
المسألة الثالثة : هذا الفعل تارة عدي باللام كما في هذه السورة ، وأخرى بنفسه كما في قوله : ( 
وتسبحوه بكرة وأصيلا   ) [ الفتح : 9 ] وأصله التعدي بنفسه ؛ لأن معنى سبحته أي بعدته عن السوء ، فاللام إما أن تكون مثل اللام في نصحته ونصحت له ، وإما أن يراد يسبح لله أحدث التسبيح لأجل الله وخالصا لوجهه . 
المسألة الرابعة : زعم 
الزجاج  أن المراد بهذا التسبيح ، التسبيح الذي هو القول ، واحتج عليه بوجهين : 
الأول : أنه تعالى قال : ( 
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم   ) [ الإسراء : 44 ] فلو كان 
المراد من التسبيح ، هو دلالة آثار الصنع على الصانع لكانوا يفقهونه . 
الثاني : أنه تعالى قال : ( 
وسخرنا مع داود الجبال يسبحن   ) [ الأنبياء : 79 ] فلو كان تسبيحا عبارة عن دلالة الصنع على الصانع لما كان في ذلك تخصيص 
لداود  عليه السلام . واعلم أن هذا الكلام ضعيف لحجتين : 
أما الأولى : فلأن دلالة هذه الأجسام على 
تنزيه ذات الله وصفاته وأفعاله من أدق الوجوه ، ولذلك فإن العقلاء اختلفوا فيها ، فقوله : ( 
ولكن لا تفقهون   ) لعله إشارة إلى أقوام جهلوا بهذه الدلالة ، وأيضا فقوله : ( 
لا تفقهون   ) إشارة إن لم يكن إشارة إلى جمع معين ، فهو خطاب مع الكل فكأنه قال : كل هؤلاء ما فقهوا ذلك ، وذلك لا ينافي أن يفقهه بعضهم . 
وأما الحجة الثانية : فضعيفة لأن هناك من المحتمل أن 
الله خلق حياة في الجبل حتى نطق بالتسبيح ، أما هذه الجمادات التي تعلم بالضرورة أنها جمادات يستحيل أن يقال : إنها تسبح الله على سبيل النطق بذلك التسبيح ، إذ لو جوزنا صدور الفعل المحكم عن الجمادات لما أمكننا أن نستدل بأفعال الله تعالى على كونه عالما حيا ، وذلك كفر ، بل الحق أن التسبيح الذي هو القول لا يصدر إلا من العاقل العارف بالله تعالى ، فينوي بذلك القول تنزيه ربه سبحانه ، ومثل ذلك لا يصح من الجمادات ، فإذا التسبيح العام الحاصل من العاقل والجماد لا بد وأن يكون مفسرا بأحد وجهين : 
الأول : أنها تسبح بمعنى أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه . 
والثاني : أن الممكنات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يريد ليس له عن فعله وتكوينه مانع ولا دافع ، إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إن حملنا التسبيح المذكور في الآية على التسبيح بالقول ، كان المراد بقوله : ( 
ما في السماوات   ) من في السماوات ومنهم حملة العرش : ( 
فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون   ) [ فصلت : 38 ] ومنهم المقربون : ( 
قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم   ) [ سبأ : 41 ] وأما المسبحون الذين هم في الأرض فمنهم الأنبياء كما قال 
ذو النون    : ( 
لا إله إلا أنت سبحانك   ) [ الأنبياء : 87 ] وقال 
موسى    : ( 
سبحانك تبت إليك   ) [ الأعراف : 143 ] والصحابة يسبحون كما قال : ( 
سبحانك فقنا عذاب النار   ) [ آل عمران : 191 ] وأما إن حملنا هذا التسبيح على التسبيح المعنوي : فأجزاء السماوات وذرات الأرض والجبال والرمال والبحار والشجر والدواب والجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والنور والظلمة والذوات والصفات والأجسام   
[ ص: 181 ] والأعراض كلها مسبحة خاشعة خاضعة لجلال الله منقادة لتصرف الله كما قال عز من قائل : ( 
وإن من شيء إلا يسبح بحمده   ) [ الإسراء : 44 ] وهذا التسبيح هو المراد بالسجود في قوله : ( 
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض   ) [ الرعد : 15 ] أما قوله : ( 
وهو العزيز الحكيم   ) فالمعنى أنه القادر الذي لا ينازعه شيء ، فهو إشارة إلى كمال القدرة ، 
والحكيم إشارة إلى أنه العالم الذي لا يحتجب عن علمه شيء من الجزئيات والكليات أو أنه الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب ، ولما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما لا جرم قدم العزيز على الحكيم في الذكر . 
واعلم أن قوله : ( 
وهو العزيز الحكيم   ) يدل على أن العزيز ليس إلا هو ؛ لأن هذه الصيغة تفيد الحصر ، يقال : زيد هو العالم لا غيره ، فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد ؛ لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم وما لا يكون كذلك لا يكون إلها .