( 
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس   ) 
ثم قال تعالى : ( 
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات   ) وفي تفسير البينات قولان : 
الأول : وهو قول 
مقاتل بن سليمان    : إنها هي المعجزة الظاهرة والدلائل القاهرة . 
والثاني : وهو قول 
 nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل بن حيان  أي 
أرسلناهم بالأعمال التي تدعوهم إلى طاعة الله وإلى الإعراض عن غير الله ، والأول هو الوجه الصحيح ؛ لأن نبوتهم إنما ثبتت بتلك المعجزات . 
ثم قال تعالى : ( 
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس   ) . 
واعلم أن نظير هذه الآية قوله : ( 
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان   ) [ الشورى : 17 ] وقال :   
[ ص: 210 ]   ( 
والسماء رفعها ووضع الميزان   ) وههنا مسائل : 
المسألة الأولى : في وجه المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه : 
أحدها : وهو الذي أقوله : أن مدار التكليف على أمرين : 
أحدهما : فعل ما ينبغي فعله . 
والثاني : ترك ما ينبغي تركه ، والأول هو المقصود بالذات ؛ لأن المقصود بالذات لو كان هو الترك لوجب أن لا يخلق أحد ؛ لأن الترك كان حاصلا في الأزل ، وأما فعل ما ينبغي فعله ، فإما أن يكون متعلقا بالنفي وهو المعارف ، أو بالبدن وهو أعمال الجوارح ، فالكتاب هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال النفسانية لأن يتميز الحق من الباطل والحجة من الشبهة ، والميزان هو الذي يتوسل به إلى فعل ما ينبغي من الأفعال البدنية ، فإن معظم التكاليف الشاقة في الأعمال هو ما يرجع إلى معاملة الخلق ، والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص ، وأما الحديد ففيه بأس شديد ، وهو زاجر للخلق عما لا ينبغي ، والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية ، والميزان إلى القوة العملية ، والحديد إلى دفع ما لا ينبغي ، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ، ثم رعاية المصالح الجسمانية ، ثم الزجر عما لا ينبغي - روعي هذا الترتيب في هذه الآية . 
وثانيها : المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب ، أو مع الخلق وهم : إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي بالميزان ، أو مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد . 
وثالثها : الأقوام ثلاثة : إما السابقون وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب ، فينصفون ولا ينتصفون ، ويحترزون عن مواقع الشبهات ، وإما مقتصدون وهم الذين ينصفون وينتصفون ، فلا بد لهم من الميزان ، وإما ظالمون وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون ، ولا بد لهم من الحديد والزجر . 
ورابعها : الإنسان ، إما أن يكون في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة ومقام المقربين ، فههنا لا يسكن إلا إلى الله ، ولا يعمل إلا بكتاب الله ، كما قال : ( 
ألا بذكر الله تطمئن القلوب   ) [ الرعد : 28 ] وإما أن يكون في مقام الطريقة وهو مقام النفس اللوامة ، ومقام أصحاب اليمين ، فلا بد له من الميزان في معرفة الأخلاق حتى يحترز عن طرفي الإفراط والتفريط ، ويبقى على الصراط المستقيم ، وإما أن يكون في مقام الشريعة وهو مقام النفس الأمارة ، وههنا لا بد له من حديد المجاهدة والرياضات الشاقة . 
وخامسها : الإنسان إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فلا أنس له إلا بالكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فلا بد له من ميزان الدليل والحجة ، أو صاحب العناد واللجاج ، فلا بد وأن ينفى من الأرض بالحديد . 
وسادسها : أن الدين هو إما الأصول وإما الفروع ، وبعبارة أخرى : إما المعارف وإما الأعمال ، فالأصول من الكتاب ، وأما الفروع : فالمقصود الأفعال التي فيها عدلهم ومصلحتهم ، وذلك بالميزان ، فإنه إشارة إلى رعاية العدل ، والحديد لتأديب من ترك ذينك الطريقين . 
وسابعها : الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف ، والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكام المبنية على العدل والإنصاف ، وهو شأن الملوك ، والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليهما بالسيف ، وهذا يدل على أن 
مرتبة العلماء وهم أرباب الكتاب مقدمة على مرتبة الملوك الذين هم أرباب السيف ، ووجوه المناسبات كثيرة ، وفيما ذكرناه تنبيه على الباقي . 
المسألة الثانية : ذكروا في إنزال الميزان وإنزال الحديد قولين : 
الأول : أن الله تعالى أنزلهما من السماء ، روي أن 
جبريل  عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى 
نوح  ، وقال : مر قومك يزنوا به ، وعن 
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس    : نزل 
آدم  من الجنة ومعه خمسة أشياء من الحديد : السندان ، والكلبتان ، والمقمعة ، والمطرقة ، والإبرة ، والمقمعة ما   
[ ص: 211 ] يحدد به . ويدل على صحة هذا ما روى 
ابن عمر  أنه عليه الصلاة والسلام قال : " 
إن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : أنزل الحديد والنار والماء والملح   " . 
والقول الثاني : أن معنى هذا الإنزال الإنشاء والتهيئة ، كقوله تعالى : ( 
وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج   ) [ الزمر : 6 ] قال 
قطرب    : " أنزلناها " أي هيأناها ، من النزل ، يقال : أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا . ومنهم من قال : هذا من جنس قوله : علفتها تبنا وماء باردا ، وأكلت خبزا ولبنا . 
المسألة الثالثة : ذكر في 
منافع الميزان أن يقوم الناس بالقسط ، والقسط والإقساط هو الإنصاف ، وهو أن تعطي قسط غيرك كما تأخذ قسط نفسك ، والعادل مقسط ، قال الله تعالى : ( 
إن الله يحب المقسطين   ) [ المائدة : 42 ] وأما الحديد ففيه البأس الشديد ، فإن آلات الحروب متخذة منه ، وفيه أيضا منافع كثيرة منها قوله تعالى : ( 
وعلمناه صنعة لبوس لكم   ) [ الأنبياء : 80 ] ومنها أن مصالح العالم إما أصول ، وإما فروع ، أما الأصول فأربعة : الزراعة ، والحياكة ، وبناء البيوت ، والسلطنة ، وذلك لأن الإنسان مضطر إلى طعام يأكله ، وثوب يلبسه ، وبناء يجلس فيه ، 
والإنسان مدني بالطبع ، فلا تتم مصلحته إلا عند اجتماع جمع من أبناء جنسه يشتغل كل واحد منهم بمهم خاص ، فحينئذ ينتظم من الكل مصالح الكل ، وذلك الانتظام لا بد وأن يفضي إلى المزاحمة ، ولا بد من شخص يدفع ضرر البعض عن البعض ، وذلك هو السلطان ، فثبت أنه لا تنتظم مصلحة العالم إلا بهذه الحروف الأربعة ، أما الزراعة فمحتاجة إلى الحديد ، وذلك في كرب الأراضي وحفرها ، ثم عند تكون هذه الحبوب وتولدها لا بد من خبزها وتنقيتها ، وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم الحبوب لا بد من طحنها ، وذلك لا يتم إلا بالحديد ، ثم لا بد من خبزها ، ولا يتم إلا بالنار ، ولا بد من المقدحة الحديدية ، وأما الفواكه فلا بد من تنظيفها عن قشورها ، وقطعها على الوجوه الموافقة للأكل ، ولا يتم ذلك إلا بالحديد ، وأما الحياكة فمعلوم أنه يحتاج في آلات الحياكة إلى الحديد ، ثم يحتاج في قطع الثياب وخياطتها إلى الحديد ، وأما البناء فمعلوم أن كمال الحال فيه لا يحصل إلا بالحديد ، وأما أسباب السلطنة فمعلوم أنها لا تتم ولا تكمل إلا بالحديد ، وعند هذا يظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ، ويظهر أيضا أن الذهب لا يقوم مقام الحديد في شيء من هذه المصالح ، فلو لم يوجد الذهب في الدنيا ما كان يختل شيء من مصالح الدنيا ، ولو لم يوجد الحديد لاختل جميع مصالح الدنيا ، ثم إن الحديد لما كانت الحاجة إليه شديدة جعله سهل الوجدان ، كثير الوجود ، والذهب لما قلت الحاجة إليه جعله عزيز الوجود ، وعند هذا يظهر 
أثر جود الله تعالى ورحمته على عبيده ، فإن كل ما كانت حاجتهم إليه أكثر جعل وجدانه أسهل ؛ ولهذا قال بعض الحكماء : إن أعظم الأمور حاجة إليه هو الهواء ، فإنه لو انقطع وصوله إلى القلب لحظة لمات الإنسان في الحال ، فلا جرم جعله الله أسهل الأشياء وجدانا ، وهيأ أسباب التنفس وآلاته ، حتى إن الإنسان يتنفس دائما بمقتضى طبعه من غير حاجة فيه إلى تكلف عمل ، وبعد الهواء الماء ، إلا أنه لما كانت الحاجة إلى الماء أقل من الحاجة إلى الهواء جعل تحصيل الماء أشق قليلا من تحصيل الهواء ، وبعد الماء الطعام ، ولما كانت الحاجة إلى الطعام أقل من الحاجة إلى الماء ، جعل تحصيل الطعام أشق من تحصيل الماء ، ثم تتفاوت الأطعمة في درجات الحاجة والعزة ، فكل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل ، وكل ما كان وجدانه أعسر كانت الحاجة إليه أقل ، والجواهر لما كانت الحاجة إليها قليلة جدا ، لا جرم كانت عزيزة جدا ، فعلمنا أن كل شيء كانت الحاجة إليه أكثر كان وجدانه أسهل ، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أشد من الحاجة إلى كل شيء فنرجو من   
[ ص: 212 ] فضله أن يجعلها أسهل الأشياء وجدانا ، قال الشاعر : 
سبحان من خص العزيز بعزه والناس مستغنون عن أجناسه     وأذل أنفاس الهواء وكل ذي 
نفس فمحتاج إلى أنفاسه