صفحة جزء
( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا )

النوع الثالث من أعمال الأبرار قوله تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا )

اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين :

التعظيم لأمر الله تعالى ، وإليه الإشارة بقوله : ( يوفون بالنذر ) .

[ ص: 216 ] والشفقة على خلق الله ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويطعمون الطعام ) . وههنا مسائل :

المسألة الأولى : لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة ، كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي ، وأبي مسلم الأصفهاني ، والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام ، والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب " البسيط " أنها نزلت في حق علي عليه السلام ، وصاحب " الكشاف " من المعتزلة ذكر هذه القصة ، فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا ، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس معه ، فقالوا : يا أبا الحسن ، لو نذرت على ولدك ، فنذر علي وفاطمة وفضة - جارية لهما - إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام ، فشفيا وما معهم شيء ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ، ووضعوها بين أيديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين ، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ، وجاءهم أسير في الثالثة ، ففعلوا مثل ذلك ، فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال : ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم . وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبريل عليه السلام وقال : خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك . فأقرأها السورة .

والأولون يقولون : إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان ، ثم بين أنه هدى الكل ، وأزاح عللهم ، ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ، ثم ذكر وعيد الكافر ، ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر ، فقال : ( إن الأبرار يشربون ) [ الإنسان : 5 ] ، وهذه صيغة جمع ، فتتناول جميع الشاكرين والأبرار ، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد ؛ لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بيانا لحال كل من كان من الأبرار والمطيعين ، فلو جعلناه مختصا بشخص واحد لفسد نظم السورة .

والثاني : أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع ؛ كقوله : ( إن الأبرار يشربون ) ، و ( يوفون بالنذر ) ( ويخافون ) ( ويطعمون ) وهكذا إلى آخر الآيات ، فتخصيصه بجمع معينين خلاف الظاهر ، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه ، ولكنه أيضا داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين ، فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها ، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى ألبتة ، اللهم إلا أن يقال : السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه ، ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

المسألة الثانية : الذين يقولون : هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام قالوا : المراد من قوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير ، وأما الذين يقولون : الآية عامة في حق جميع الأبرار [ فإنهم ] قالوا : إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان ، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه ، ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام ؛ وذلك لأن قوام الأبدان بالطعام ، ولا حياة إلا به ، وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه ، فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع ، والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن [ ص: 217 ] جميع وجوه المنافع ، فيقال : أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف ، وقال تعالى : ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ) [ النساء : 10 ] ، وقال : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) [ البقرة : 188 ] إذا ثبت هذا فنقول : إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة ، وأما قوله تعالى : ( على حبه ) ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون الضمير للطعام ، أي مع اشتهائه والحاجة إليه ، ونظيره ( وآتى المال على حبه ) [ البقرة : 177 ] ، ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] .

والثاني : قال الفضيل بن عياض : على حب الله أي لحبهم لله ؛ واللام قد تقام مقام " على " ، وكذلك تقام على مقام اللام . ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم ، وهم ثلاثة :

أحدهم : المسكين ، وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه .

والثاني : اليتيم ، وهو الذي مات كاسبه ، فيبقى عاجزا عن الكسب لصغره ، مع أنه مات كاسبه .

والثالث : الأسير ، وهو المأخوذ من قومه ، المملوكـ[ ـة ] رقبته ، الذي لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة ، وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله : ( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ) [ البلد : 16 ] وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا ، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال :

أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنه الأسير من المشركين ، روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم ؛ وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو من أو فداء أو استرقاق ، ولا يمتنع أيضا أن يكون المراد هو الأسير ؛ كافرا كان أو مسلما ؛ لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه ، فمع الإسلام أولى ، فإن قيل : لما وجب قتله ، فكيف يجب إطعامه ؟ قلنا : القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر ، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل .

ثم هذا الإطعام على من يجب ؟ فنقول : الإمام يطعمه ، فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين .

وثانيها : قال السدي : الأسير هو المملوك .

وثالثها : الأسير هو الغريم ، قال عليه السلام : غريمك أسيرك ، فأحسن إلى أسيرك .

ورابعها : الأسير هو المسجون من أهل القبلة ، وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ، وروي ذلك مرفوعا من طريق الخدري أنه عليه السلام قال : ( مسكينا ) فقيرا ، ( ويتيما ) لا أب له ، ( وأسيرا ) قال : المملوك المسجون .

وخامسها : الأسير هو الزوجة ؛ لأنهن أسراء عند الأزواج ، قال عليه الصلاة والسلام : اتقوا الله في النساء ؛ فإنهن عندكم عوان قال القفال : واللفظ يحتمل كل ذلك ؛ لأن الأصل في الأسر هو الشد بالقيد ، وكان الأسير يفعل به ذلك حبسا له ، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد ، فعاد المعنى إلى الحبس .

واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين :

أحدهما : تحصيل رضا الله ، وهو المراد من قوله : ( إنما نطعمكم لوجه الله ) .

والثاني : الاحتراز من خوف يوم القيامة ، وهو المراد من قوله : ( إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ) ، وههنا مسائل :

المسألة الأولى : قوله : ( إنما نطعمكم لوجه الله ) إلى قوله : ( قمطريرا ) يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا : هذه الأشياء باللسان ، إما لأجل أن يكون ذلك القول منعا لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر ؛ لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى ، فلا معنى لمكافأة الخلق ، وإما أن يكون [ ص: 218 ] لأجل أن يصير ذلك القول تفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة .

وثانيها : أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك .

وثالثها : أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم ، وإن لم يقولوا شيئا . وعن مجاهد : أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم ، فأثنى عليهم .

المسألة الثانية : اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى ، وتارة يكون لغير الله تعالى ؛ إما طلبا لمكافأة أو طلبا لحمد وثناء ، وتارة يكون لهما ، وهذا هو الشرك ، والأول هو المقبول عند الله تعالى ، وأما القسمان الباقيان فمردودان ، قال تعالى : ( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) [ البقرة : 264 ] وقال : ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله ) [ الروم : 39 ] ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى . إذا عرفت هذا فنقول : القوم لما قالوا : ( إنما نطعمكم لوجه الله ) بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك ، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله : ( لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) .

المسألة الثالثة : الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر ، وهو على وزن الدخول والخروج ، هذا قول جماعة أهل اللغة ، وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر ؛ لقوله : ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) [ الإسراء : 99 ] مثل برد وبرود ، وإن شئت مصدرا واحدا في معنى جمع ، مثل قعد قعودا ، وخرج خروجا .

المسألة الرابعة : قوله : ( إنا نخاف من ربنا ) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم .

والثاني : أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة ، فإن قيل : إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر ، وعلل ذلك بخوف القيامة فقط ، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين : بطلب رضاء الله ، وبالخوف عن القيامة ، فما السبب فيه ؟ قلنا : الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى ؛ وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله ، فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط ، أما الإطعام فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله ، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة .

المسألة الخامسة : وصف اليوم بالعبوس مجازا على طريقتين :

أحدهما : أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء ، كقولهم : نهارك صائم ، روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران .

والثاني : أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل .

المسألة السادسة : قال الزجاج : جاء في التفسير أن قمطريرا معناه تعبيس الوجه ، فيجتمع ما بين العينين ، قال : وهذا سائغ في اللغة ، يقال : اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها ، يعني أن معنى اقمطر في اللغة جمع ، وقال الكلبي : قمطريرا يعني شديدا ، وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة ، قالوا : يوم قمطرير وقماطر ؛ إذا كان صعبا شديدا أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ، قال الواحدي : هذا معنى ، والتفسير هو الأول .

التالي السابق


الخدمات العلمية