صفحة جزء
[ ص: 104 ] [ سورة البروج ]

عشرون وآيتان مكية

بسم الله الرحمن الرحيم

( والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود )

اعلم أن المقصود من هذه السورة تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن إيذاء الكفار ، وكيفية تلك التسلية هي أنه تعالى بين أن سائر الأمم السالفة كانوا كذلك مثل أصحاب الأخدود ومثل فرعون ومثل ثمود ، وختم ذلك بأن بين أن كل الكفار كانوا في التكذيب ، ثم عقب هذا الوجه بوجه آخر ، وهو قوله : ( والله من ورائهم محيط ) [ البروج : 20 ] ذكر وجها ثالثا وهو أن هذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير وهو قوله : ( بل هو قرآن مجيد ) [ البروج : 21 ] فهذا ترتيب السورة .

بسم الله الرحمن الرحيم

( والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود )

اعلم أن في البروج ثلاثة أقوال :

أحدها : أنها هي البروج الاثنا عشر وهي مشهورة وإنما حسن القسم بها لما فيها من عجيب الحكمة ، وذلك لأن سير الشمس فيها ولا شك أن مصالح العالم السفلي مرتبطة بسير الشمس فيدل ذلك على أن لها صانعا حكيما ، قال الجبائي : وهذه اليمين واقعة على السماء الدنيا لأن البروج فيها ، واعلم أن هذا خطأ وتحقيقه ذكرناه في قوله تعالى : ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ) .

وثانيها : أن البروج هي منازل القمر ، وإنما حسن القسم بها لما في سير القمر وحركته من الآثار العجيبة .

وثالثها : أن البروج هي عظام الكواكب سميت بروجا لظهورها .

وأما اليوم الموعود فهو يوم القيامة ، رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال القفال : يحتمل أن يكون المراد ( واليوم الموعود ) لانشقاق السماء وفنائها وبطلان بروجها .

وأما الشاهد والمشهود ، فقد اضطربت أقاويل المفسرين فيه ، والقفال أحسن الناس كلاما فيه ، قال : إن الشاهد يقع على شيئين :

أحدهما : الشاهد الذي تثبت به الدعاوى والحقوق .

والثاني : الشاهد الذي هو بمعنى الحاضر ، كقوله : ( عالم الغيب والشهادة ) [ الأنعام : 73 ] ويقال : فلان شاهد وفلان غائب ، وحمل الآية على هذا الاحتمال الثاني أولى ، إذ لو كان المراد هو الأول لما خلا لفظ المشهود عن حرف الصلة ، فيقال : مشهود عليه ، أو مشهود له . هذا هو الظاهر ، وقد يجوز أن يكون المشهود معناه المشهود عليه فحذفت الصلة ، كما في قوله : ( إن العهد كان مسئولا ) [ الإسراء : 34 ] أي مسئولا عنه ، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن حملنا الشهود على الحضور احتملت الآية وجوها من التأويل .

أحدها : أن المشهود هو يوم القيامة ، والشاهد هو الجمع الذي يحضرون فيه ، وهو مروي عن ابن عباس [ ص: 105 ] والضحاك ، ويدل على صحة هذا الاحتمال وجوه :

الأول : أنه لا حضور أعظم من ذلك الحضور ، فإن الله تعالى يجمع فيه خلق الأولين والآخرين من الملائكة والأنبياء والجن والإنس ، وصرف اللفظ إلى المسمى الأكمل أولى .

والثاني : أنه تعالى ذكر اليوم الموعود ، وهو يوم القيامة ، ثم ذكر عقيبه : " وشاهد ومشهود " وهذا يناسب أن يكون المراد بالشاهد من يحضر في ذلك اليوم من الخلائق ، وبالمشهود ما في ذلك اليوم من العجائب .

الثالث : أن الله تعالى وصف يوم القيامة بكونه مشهودا في قوله : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) [ مريم : 37 ] وقال : ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) [ هود : 103 ] وقال : ( يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده ) [ الإسراء : 52 ] وقال : ( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ) [ يس : 53 ] وطريق تنكيرهما إما ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى : ( علمت نفس ما أحضرت ) [ التكوير : 14 ] كأنه قيل : وما أفرطت كثرته من شاهد ومشهود ، وإما الإبهام في الوصف كأنه قيل : وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما ، وإنما حسن القسم بيوم القيامة للتنبيه على القدرة إذ كان هو يوم الفصل والجزاء ويوم تفرد الله تعالى فيه بالملك والحكم ، وهذا الوجه اختيار ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن بن علي وابن المسيب والضحاك والنخعي والثوري .

وثانيها : أن يفسر المشهود بيوم الجمعة وهو قول ابن عمر وابن الزبير : وذلك لأنه يوم يشهده المسلمون للصلاة ولذكر الله . ومما يدل على كون هذا اليوم مسمى بالمشهود خبران .

الأول : ما روى أبو الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة " .

والثاني : ما روى أبو هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " تحضر الملائكة أبواب المسجد فيكتبون الناس فإذا خرج الإمام طويت الصحف " وهذه الخاصية غير موجودة إلا في هذا اليوم فيجوز أن يسمى مشهودا لهذا المعنى ، قال الله تعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل ) [ الإسراء : 78 ] وروي : " أن ملائكة الليل والنهار يحضرون وقت صلاة الفجر فسميت هذه الصلاة مشهودة لشهادة الملائكة " فكذا يوم الجمعة .

وثالثها : أن يفسر المشهود بيوم عرفة والشاهد من يحضره من الحاج وحسن القسم به تعظيما لأمر الحج . روي أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عرفة : " انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أتوني من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم وأن إبليس يصرخ ويضع التراب على رأسه لما يرى من ذلك " والدليل على أن يوم عرفة مسمى بأنه مشهود قوله تعالى : ( وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ) [ الحج : 28 ] .

ورابعها : أن يكون المشهود يوم النحر وذلك لأنه أعظم المشاهد في الدنيا فإنه يجتمع أهل الشرق والغرب في ذلك اليوم بمنى والمزدلفة وهو عيد المسلمين ، ويكون الغرض من القسم به تعظيم أمر الحج .

وخامسها : حمل الآية على يوم الجمعة ويوم عرفة ويوم النحر جميعا لأنها أيام عظام فأقسم الله بها كما أقسم بالليالي العشر والشفع والوتر ، ولعل الآية عامة لكل يوم عظيم من أيام الدنيا ولكل مقام جليل من مقاماتها وليوم القيامة أيضا لأنه يوم عظيم كما قال : ( ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 5 - 6 ] وقال : ( فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ) [ مريم : 37 ] ويدل على صحة هذا التأويل خروج اللفظ في الشاهد والمشهود على النكرة ، فيحتمل أن يكون ذلك على معنى أن القصد لم يقع فيه إلى يوم بعينه فيكون معرفا .

أما الوجه الأول : وهو أن يحمل الشاهد على من تثبت الدعوى بقوله ، فقد ذكروا على هذا التقدير وجوها كثيرة .

أحدها : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ آل عمران : 18 ] وقوله : ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله ) [ الأنعام : 19 ] وقوله : ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) [ ص: 106 ] [ فصلت : 53 ] والمشهود هو التوحيد ، لقوله : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) أو النبوة : ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ) .

وثانيها : أن الشاهد محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والمشهود عليه سائر الأنبياء ، لقوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ النساء : 41 ] ولقوله تعالى : ( إنا أرسلناك شاهدا ) [ الأحزاب : 45 ] .

وثالثها : أن يكون الشاهد هو الأنبياء ، والمشهود عليه هو الأمم ، لقوله تعالى : ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) .

ورابعها : أن يكون الشاهد هو جميع الممكنات والمحدثات ، والمشهود عليه واجب الوجود ، وهذا احتمال ذكرته أنا وأخذته من قول الأصوليين هذا الاستدلال بالشاهد على الغائب ، وعلى هذا التقدير يكون القسم واقعا بالخلق والخالق ، والصنع والصانع . وخامسها : أن يكون الشاهد هو الملك ، لقوله تعالى : ( وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ) [ ق : 21 ] والمشهود عليه هم المكلفون .

وسادسها : أن يكون الشاهد هو الملك ، والمشهود عليه هو الإنسان الذي تشهد عليه جوارحه يوم القيامة ، قال : ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ) [ النور : 24 ] ( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ) [ فصلت : 21 ] وهذا قول عطاء الخراساني .

وأما الوجه الثالث : وهو أقوال مبنية على الروايات لا على الاشتقاق .

فأحدها : أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، روى أبو موسى الأشعري أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، ويوم الجمعة ذخيرة الله لنا " وعن أبي هريرة مرفوعا قال : " المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب له ، ولا يستعيذ من شر إلا أعاذه منه " وعن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " سيد الأيام يوم الجمعة وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة " وهذا قول كثير من أهل العلم كعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وأبي هريرة وابن المسيب والحسن البصري والربيع بن أنس ، قال قتادة : شاهد ومشهود ، يومان عظمهما الله من أيام الدنيا ، كما يحدث أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة .

وثانيها : أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر وذلك لأنهما يومان عظمهما الله وجعلهما من أيام أركان أيام الحج ، فهذان اليومان يشهدان لمن يحضر فيهما بالإيمان واستحقاق الرحمة ، وروي أنه عليه السلام ذبح كبشين ، وقال في أحدهما : " هذا عمن يشهد لي بالبلاغ " فيحتمل لهذا المعنى أن يكون يوم النحر شاهدا لمن حضره بمثل ذلك لهذا الخبر .

وثالثها : أن الشاهد هو عيسى لقوله تعالى حكاية عنه : ( وكنت عليهم شهيدا ) [ المائدة : 117 ] .

ورابعها : الشاهد هو الله والمشهود هو يوم القيامة ، قال تعالى : ( قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ) [ يس : 52 ] وقوله : ( ثم ينبئهم بما عملوا ) [ المجادلة : 7 ] .

وخامسها : أن الشاهد هو الإنسان ، والمشهود هو التوحيد لقوله تعالى : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] .

وسادسها : أن الشاهد الإنسان والمشهود هو يوم القيامة ، أما كون الإنسان شاهدا فلقوله تعالى : ( قالوا بلى شهدنا ) [ الأعراف : 172 ] وأما كون يوم القيامة مشهودا فلقوله : ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) [ الأعراف : 172 ] فهذه هي الوجوه الملخصة ، والله أعلم بحقائق القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية