صفحة جزء
( فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب )

فقال : ( فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : الدفق صب الماء ، يقال : دفقت الماء ، أي صببته وهو مدفوق ، أي مصبوب ، ومندفق أي منصب ، ولما كان هذا الماء مدفوقا اختلفوا في أنه لم وصف بأنه دافق على وجوه :

الأول : قال الزجاج : معناه ذو اندفاق ، كما يقال : دارع وفارس ونابل ولابن وتامر ، أي درع وفرس ونبل ولبن وتمر ، وذكر الزجاج أن هذا مذهب سيبويه .

الثاني : أنهم يسمون المفعول باسم الفاعل . قال الفراء : وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم ، يجعلون المفعول فاعلا إذا كان في مذهب النعت ، كقوله سر كاتم ، وهم ناصب ، وليل نائم ، وكقوله تعالى : ( في عيشة راضية ) أي مرضية .

الثالث : ذكر الخليل في الكتاب المنسوب إليه: دفق الماء دفقا ودفوقا إذا انصب بمرة ، واندفق الكوز إذا انصب بمرة ، ويقال في الطيرة عند انصباب الكوز ونحوه : دافق خير ، وفي كتاب قطرب : دفق الماء يدفق إذا انصب .

الرابع : صاحب الماء لما كان دافقا أطلق ذلك على الماء على سبيل المجاز .

المسألة الثانية : قرئ الصلب بفتحتين ، والصلب بضمتين ، وفيه أربع لغات : صلب وصلب وصلب وصالب :

المسألة الثالثة : ترائب المرأة عظام صدرها حيث تكون القلادة ، وكل عظم من ذلك تريبة ، وهذا قول جميع أهل اللغة . قال امرؤ القيس :


ترائبها مصقولة كالسجنجل



المسألة الرابعة : في هذه الآية قولان : أحدهما : أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب [ ص: 118 ] الرجل وترائب المرأة . وقال آخرون : إنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه ، واحتج صاحب القول الثاني على مذهبه بوجهين :

الأول : أن ماء الرجل خارج من الصلب فقط ، وماء المرأة خارج من الترائب فقط ، وعلى هذا التقدير لا يحصل هناك ماء خارج من بين الصلب والترائب ، وذلك على خلاف الآية .

الثاني : أنه تعالى بين أن الإنسان مخلوق : ( من ماء دافق ) والذي يوصف بذلك هو ماء الرجل ، ثم عطف عليه بأن وصفه بأنه يخرج ، يعني هذا الدافق من بين الصلب والترائب ، وذلك يدل على أن الولد مخلوق من ماء الرجل فقط . أجاب القائلون بالقول الأول عن الحجة الأولى : أنه يجوز أن يقال للشيئين المتباينين : أنه يخرج من بين هذين خير كثير ، ولأن الرجل والمرأة عند اجتماعهما يصيران كالشيء الواحد ، فحسن هذا اللفظ هناك ، وأجابوا عن الحجة الثانية : بأن هذا من باب إطلاق اسم البعض على الكل ، فلما كان أحد قسمي المني دافقا أطلق هذا الاسم على المجموع ، ثم قالوا : والذي يدل على أن الولد مخلوق من مجموع الماءين أن مني الرجل وحده صغير فلا يكفي ، ولأنه روي أنه عليه السلام قال : " إذا غلب ماء الرجل يكون الولد ذكرا ، ويعود الشبه إليه وإلى أقاربه ، وإذا غلب ماء المرأة فإليها وإلى أقاربها يعود الشبه " وذلك يقتضي صحة القول الأول .

واعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية ، فقالوا : إن كان المراد من قوله : ( يخرج من بين الصلب والترائب ) أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع فليس الأمر كذلك ؛ لأنه إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع ، وينفصل عن جميع أجزاء البدن حتى يأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته ، فيصير مستعدا لأن يتولد منه مثل تلك الأعضاء ، ولذلك فإن المفرط في الجماع يستولي الضعف على جميع أعضائه ، وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك فهو ضعيف ، بل معظم أجزائه إنما يتربى في الدماغ ، والدليل عليه أن صورته يشبه الدماغ ، ولأن المكثر منه يظهر الضعف أولا في عينيه ، وإن كان المراد أن مستقر المني هناك فهو ضعيف ؛ لأن مستقر المني هو أوعية المني ، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين ، وإن كان المراد أن مخرج المني هناك فهو ضعيف ؛ لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك .

الجواب : لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ ، والدماغ خليفة وهي النخاع، وهو في الصلب ، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن وهو التريبة ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر ، على أن كلامكم في كيفية تولد المني ، وكيفية تولد الأعضاء من المني محض الوهم والظن الضعيف ، وكلام الله تعالى أولى بالقبول .

المسألة الخامسة : قد بينا في مواضع من هذا الكتاب أن دلالة تولد الإنسان عن النطفة على وجود الصانع المختار من أظهر الدلائل لوجوه :

أحدها : أن التركيبات العجيبة في بدن الإنسان أكثر ، فيكون تولده عن المادة البسيطة أدل على القادر المختار .

وثانيها : أن اطلاع الإنسان على أحوال نفسه أكثر من اطلاعه على أحوال غيره ، فلا جرم كانت هذه الدلالة أتم .

وثالثها : أن مشاهدة الإنسان لهذه الأحوال في أولاده وأولاد سائر الحيوانات دائمة ، فكان الاستدلال به على الصانع المختار أقوى .

ورابعها : وهو أن الاستدلال بهذا الباب ، كما أنه يدل قطعا على وجود الصانع المختار الحكيم ، فكذلك يدل قطعا على صحة البعث والحشر والنشر ، وذلك لأن حدوث الإنسان إنما كان بسبب اجتماع أجزاء كانت متفرقة في بدن الوالدين ، بل [ ص: 119 ] في جميع العالم ، فلما قدر الصانع على جمع تلك الأجزاء المتفرقة حتى خلق منها إنسانا سويا ، وجب أن يقال : إنه بعد موته وتفرق أجزائه لا بد وأن يقدر الصانع على جمع تلك الأجزاء وجعلها خلقا سويا كما كان أولا ، ولهذا السر لما بين تعالى دلالته على المبدأ ، فرع عليه أيضا دلالته على صحة المعاد .

التالي السابق


الخدمات العلمية