صفحة جزء
( فذكر إن نفعت الذكرى )

أما قوله تعالى : ( فذكر إن نفعت الذكرى )

فاعلم أنه تعالى لما تكفل بتيسير جميع مصالح الدنيا والآخرة أمر بدعوة الخلق إلى الحق ، لأن كمال حال الإنسان في أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه تاما وفوق التمام ، فلما صار محمد عليه الصلاة والسلام تاما بمقتضى قوله : ( ونيسرك لليسرى ) أمره بأن يجعل نفسه فوق التمام بمقتضى قوله : ( فذكر ) لأن التذكير يقتضي تكميل الناقصين وهداية الجاهلين ، ومن كان كذلك كان فياضا للكمال ، فكان تاما وفوق التمام ، وههنا سؤالات : [ ص: 131 ]

السؤال الأول : أنه عليه السلام كان مبعوثا إلى الكل فيجب عليه أن يذكرهم سواء نفعتهم الذكرى أو لم تنفعهم ، فما المراد من تعليقه على الشرط في قوله : ( إن نفعت الذكرى ) ؟ الجواب : أن المعلق بـ " إن " على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات منها هذه الآية ومنها قوله : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ] ومنها قوله : ( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) [ البقرة : 172 ] ومنها قوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) [ النساء : 101 ] فإن القصر جائز وإن لم يوجد الخوف ، ومنها قوله : ( ولم تجدوا كاتبا فرهان ) [ البقرة : 283 ] والرهن جائز مع الكتابة ، ومنها قوله : ( فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله ) [ البقرة : 230 ] والمراجعة جائزة بدون هذا الظن ، إذا عرفت هذا فنقول ذكروا لذكر هذا الشرط فوائد :

إحداها : أن من باشر فعلا لغرض فلا شك أن الصورة التي علم فيها إفضاء تلك الوسيلة إلى ذلك الغرض كان إلى ذلك الفعل أوجب من الصورة التي علم فيها عدم ذلك الإفضاء ، فلذلك قال : ( إن نفعت الذكرى ) .

وثانيها : أنه تعالى ذكر أشرف الحالتين ، ونبه على الأخرى كقوله : ( سرابيل تقيكم الحر ) والتقدير : ( فذكر إن نفعت الذكرى ) أو لم تنفع .

وثالثها : أن المراد منه البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول المرء لغيره إذا بين له الحق : قد أوضحت لك إن كنت تعقل فيكون مراده البعث على القبول والانتفاع به .

ورابعها : أن هذا يجري مجرى تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا تنفعهم الذكرى كما يقال للرجل : ادع فلانا إن أجابك ، والمعنى : وما أراه يجيبك .

وخامسها : أنه عليه السلام دعاهم إلى الله كثيرا ، وكلما كانت دعوته أكثر كان عتوهم أكثر ، وكان عليه السلام يتحرق حسرة على ذلك فقيل له : ( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) [ ق : 45 ] إذ التذكير العام واجب في أول الأمر فأما التكرير فلعله إنما يجب عند رجاء حصول المقصود فلهذا المعنى قيده بهذا الشرط .

السؤال الثاني : التعليق بالشرط إنما يحسن في حق من يكون جاهلا بالعواقب ، أما علام الغيوب فكيف يليق به ذلك ؟ الجواب : روي في الكتب أنه تعالى كان يقول لموسى : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] وأنا أشهد أنه لا يتذكر ولا يخشى . فأمر الدعوة والبعثة شيء وعلمه تعالى بالمغيبات وعواقب الأمور غيره ولا يمكن بناء أحدهما على الآخر .

السؤال الثالث : التذكير المأمور به هل مضبوط مثل أن يذكرهم عشرات المرات ، أو غير مضبوط ، وحينئذ كيف يكون الخروج عن عهدة التكليف ؟ والجواب : أن الضابط فيه هو العرف . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية