صفحة جزء
( من شر ما خلق ) [ ص: 177 ] قوله تعالى : ( من شر ما خلق ) وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية وجوه :

أحدها : قال عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس خاصة ؛ لأن الله تعالى لم يخلق خلقا هو شر منه ؛ ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر ، وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده .

وثانيها : يريد جهنم كأنه يقول : قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها .

وثالثها : ( من شر ما خلق ) يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما ، ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضا ، ووصف أفعالها بأنها شر ، وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة ما ؛ لأن الغلبة لما حصلت في جانب غير العقلاء حسن استعمال لفظة ما فيه ؛ لأن العبرة بالأغلب أيضا ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار ، فإن قيل : الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار ، ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداء على قول أكثر المتكلمين ، أو متولدة من قوى خلقها الله تعالى في هذه الأجرام ، على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين ، وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله ، فما معناه ؟ قلنا : وأي بأس بذلك ، ولقد صرح عليه السلام بذلك ، فقال : وأعوذ بك منك .

ورابعها : أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات ، وزعم الجبائي والقاضي أن هذا التفسير باطل ؛ لأن فعل الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شر ، قالوا : ويدل عليه وجوه :

الأول : أنه يلزم على هذا التقدير أن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمرنا أن نتعوذ به ، وذلك متناقض .

والثاني : أن أفعال الله كلها حكمة وصواب ، وذلك لا يجوز أن يقال : إنه شر .

والثالث : أن فعل الله لو كان شرا لوصف فاعله بأنه شرير ويتعالى الله عن ذلك .

والجواب عن الأول : أنا بينا أنه لا امتناع في قوله : أعوذ بك منك ؟

وعن الثاني : أن الإنسان لما تألم به فإنه يعد شرا ، فورد اللفظ على وفق قوله ، كما في قوله : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] وقوله : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] .

وعن الثالث : أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ، ثم الذي يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى : ( إذا مسه الشر جزوعا ) [ المعارج : 20 ] وقوله : ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) [ فصلت : 51 ] وكان عليه السلام يقول : وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار .

المسألة الثانية : طعن بعض الملحدة في قوله : ( قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ) من وجوه :

أحدها : أن المستعاذ منه أهو واقع بقضاء الله وقدره ، أو لا بقضاء الله ولا بقدره ؟ فإن كان الأول فكيف أمر بأن يستعيذ بالله منه ، وذلك لأن ما قضى الله به وقدره فهو واقع ، فكأنه تعالى يقول : الشيء الذي قضيت بوقوعه ، وهو لا بد واقع فاستعذ بي منه حتى لا أوقعه ، وإن لم يكن بقضائه وقدره فذلك يقدح في ملك الله وملكوته .

وثانيها : أن المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فلا دافع له ، فلا فائدة في الاستعاذة وإن كان معلوم الوقوع ، فلا حاجة إلى الاستعاذة .

وثالثها : أن المستعاذ منه إن كان مصلحة فكيف رغب المكلف في طلب دفعه ومنعه ، وإن كان مفسدة فكيف خلقه وقدره ، واعلم أن الجواب عن أمثال هذه الشبهات ، أن يقال إنه : ( لا يسأل عما يفعل ) وقد تكرر هذا الكلام في هذا الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية