صفحة جزء
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله : ( ليس البر أن تولوا ) وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : ( على حبه ) إلى ماذا يرجع ؟ وذكروا فيه وجوها :

الأول : وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال ، والتقدير : وآتى المال على حب المال ، قال ابن عباس وابن مسعود : وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت ، والعقل يدل على ذلك أيضا من وجوه :

أحدها : أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال ، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] .

وثانيها : أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقنا بالوعد والوعيد من إعطائه حال المرض والموت .

وثالثها : أن إعطاءه حال الصحة أشق ، فيكون أكثر ثوابا قياسا على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني .

ورابعها : أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفا من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعا وراغبا ، فكذا ههنا .

وخامسها : أنه متأيد بقوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه ) [ الإنسان : 8 ] أي على حب الطعام ، وعن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع " .

القول الثاني : أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل : يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله .

القول الثالث : أن الضمير عائد على اسم الله تعالى ، يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته .

المسألة الثانية : اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم : إنها الزكاة ، وهذا ضعيف ؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله : ( وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا ، فثبت أن المراد به غير الزكاة ، ثم إنه لا يخلو إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات ، لا جائز أن يكون من التطوعات ؛ لأنه تعالى قال في آخر الآية : ( أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) وقف التقوى عليه ، ولو كان ذلك ندبا لما وقف التقوى عليه ، فثبت أن هذا الإيتاء ، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان :

القول الأول : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر ، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول :

أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره طاو إلى جنبه " وروي عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقا سوى الزكاة ، ثم تلت ( وآتى المال على ) [ ص: 36 ] ( حبه ) وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه ؟ فقال : نعم يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية .

وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة ، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهرا ، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب .

واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن الزكاة نسخت كل حق .

والجواب : من وجوه :

الأول : أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " في المال حقوق سوى الزكاة " وقول الرسول أولى من قول علي .

الثاني : أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر ، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال .

الثالث : المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة ، أما الذي لا يكون مقدرا فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة ، ويلزم النفقة على الأقارب ، وعلى المملوك ، وذلك غير مقدر ، فإن قيل : هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب ؟ قلنا فيه وجوه :

أحدها : أنه تعالى قدم الأولى فالأولى ؛ لأن الفقير إذا كان قريبا فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث إنه يكون ذلك جامعا بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ، وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية ، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث ، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ) [ البقرة : 180 ] الآية ، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم ، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى ، ثم أتبعه تعالى باليتامى ؛ لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين ؛ لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله ، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب ؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره .

وثانيها : أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف ، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه ؛ لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ، ثم على هذا النسق .

وثالثها : أن ذا القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصه ؛ لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه ، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير ، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ، ثم باليتامى ، وأخر المساكين ؛ لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، فأما ابن السبيل فقد يكون غنيا ، وقد تشتد حاجته في الوقت ، والسائل قد يكون غنيا ويظهر شدة الحاجة ، وأخر المكاتب ؛ لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة .

القول الثاني : أن المراد بإيتاء المال ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال : " إن فيها حقا " هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها ، وهذا بعيد ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب .

القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا ، ثم إنه صار منسوخا بالزكاة ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة .

المسألة الثانية : أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة ، [ ص: 37 ] والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين ، وهو الصحيح لأنهم به أخص ، ونظيره قوله تعالى : ( ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ) [ النور : 22 ] .

واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين ، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكي عن قوم ؛ لأن المحرمية حكم شرعي ، أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد ، أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئا ، بل إذا كان اليتيم مراهقا عارفا بمواقع حظه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه ، هذا كله على قول من قال : اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر ، وعند أصحابنا هذا الاسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ ، والحجة فيه قوله تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ) [ النساء : 2 ] ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى : يتيم أبي طالب بعد بلوغه ، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغا دفع المال إليه ، وإلا فيدفع إلى وليه . وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة .

والذي نقوله هنا : إن المساكين أهل الحاجة ، ثم هم ضربان ؛ منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله : ( والسائلين ) وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل ؛ لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته ، وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر ، وعن قتادة أنه الضيف ؛ لأنه إنما وصل إليك من السبيل ، والأول أشبه ؛ لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابنا له للزومه إياه ، كما يقال لطير الماء : ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام . وللشجعان : بنو الحرب . وللناس : بنو الزمان . قال ذو الرمة :


وردت عشاء والثريا كأنها على قمة الرأس ابن ماء محلق



وأما قوله : ( والسائلين ) فعنى به الطالبين ، ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : " للسائل حتى ولو جاء على فرس " وقال تعالى : ( والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ) [ المعارج : 24 - 25 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية