صفحة جزء
[ ص: 572 ]

[ باب أركان الحج والعمرة ]

مسألة : ( أركان الحج : الوقوف بعرفة ، وطواف الزيارة ) .

وجملة ذلك أن أركان الحج هي أبعاضه وأجزاؤه التي لا يتم إلا بها ، فمن أخل ببعضها لم يصح حجه ، سواء تركها لعذر أو غير عذر ، بل لا بد من فعلها ، بخلاف أركان الصلاة ، فإنها تجب مع القدرة وتسقط مع العجز ، وسبب الفرق : أنه متى عجز عن أركان الحج أمكنه الاستنابة فيما عجز عنه في حياته أو بعد موته ، بخلاف الصلاة المكتوبة فإنه لا نيابة فيها .

وفي هذه الجملة فصول :

أحدها : أن الوقوف بعرفة لا يتم الحج إلا به ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب : فقوله سبحانه : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) وكلمة " إذا " لا تستعمل إلا في الأفعال التي لا بد من وجودها كقولهم : إذا احمر البسر فأتني ، ولا يقال : إن احمر البسر ؛ وذلك لأنها في الأصل ظرف لما يستقبل من الأفعال ، وتتضمن الشرط في الغالب ، فإذا جوزئ بها كان معناه إيقاع الجزاء في الزمن الذي أضيف إليه الفعل ، فلا بد من أن يكون الفعل موجودا في ذلك الزمان ، وإلا خرجت عن أن تكون ظرفا .

ومعلوم أن الإفاضة من عرفات من أفعال العباد ، فالإخبار عن وجودها يكون أمرا حتما بإيجادها نحو أن يترك بعض الناس وكلهم الإفاضة ، وصار هذا بمنزلة : إذا صليت الظهر فافعل كذا .

وقوله : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) الآية ، قالت عائشة : " كانت [ ص: 573 ] قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك قوله : " ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) " وفي لفظ : " قالت : الحمس هم الذين أنزل الله فيهم : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) قالت : كان الناس يفيضون من عرفات ، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلا من الحرم ، فلما نزلت : ( أفيضوا من حيث أفاض الناس ) رجعوا إلى عرفات " متفق عليه .

وعن جبير بن مطعم قال : " أضللت بعيرا لي ، فذهبت أطلبه يوم عرفة ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا مع الناس بعرفة ، فقلت : والله إن هذا لمن الحمس ، فما شأنه هاهنا ، وكانت قريش تعد من الحمس " متفق عليه .

وعن جابر قال : " كانت العرب يدفع بهم أبو سيارة على حمار عري ، فلما أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة بالمشعر الحرام لم تشك قريش أنه سيقتصر عليه ، ويكون منزله ثم ، فأجاز ولم يعرض حتى أتى عرفات فنزل " رواه مسلم .

فإن قيل : كيف قيل : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) والإفاضة من [ ص: 574 ] عرفات بعد قوله تعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) .

قيل : قد قيل : إنه لترتيب الأخبار ، ومعناه أن الله يأمركم إذا أفضتم من عرفات أن تذكروه عند المشعر الحرام ، ثم يأمركم أن تفيضوا من حيث أفاض الناس ، وترتيب الأمر لا يقتضي ترتيب الفعل المأمور به ، وإنما أمر بهذا بعد هذا لأن الأول أمر لجميع الحجيج ، والثاني : أمر للحمس خاصة ، ويقال : إنه معطوف على قوله : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ) إلى قوله : فاتقوا . . . ( ثم أفيضوا ) ويكون معناه : فمن فرض الحج فلا يرفث ولا يفسق ، ثم بعد فرض الحج يفيض من حيث أفاض الناس ، ويكون الكلام في بيان المحظورات والمفروضات .

فإن قيل : لم ذكر لفظ الإفاضة دون الوقوف ؟

قيل : لأنه لو قال : ثم قفوا حيث وقف الناس لظن أن الوقوف بعرفة يجزئ في كل وقت بحيث يجوز تقديمه ، وأما الإفاضة فإنها الدفع بعد تمام الوقوف ، وقد علموا أن وقت الدفع هو آخر يوم عرفة ، فإذا أمروا بالإفاضة منها علم أنه يجب أن يقفوا بها إلى وقت الإفاضة ، وأنها غاية السير الذي ينتهي إليه الحاج ، فلا تتجاوز ولا يقصر عنها ; لأن المقصر والمجاوز لا يفيضان منها .

[ ص: 575 ] وأما السنة فما روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء الليثي ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي : " أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفة ، فسألوه ، فأمر مناديا فنادى : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ، وأردف رجلا خلفه ينادي بهن " رواه الخمسة ، قال ابن عيينة : هذا أجود حديث رواه الثوري .

وفي رواية لسعيد : " من جاء ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه " .

وفي رواية له : " فمن أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد تم حجه " .

وعن عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي قال : " أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت [ ص: 576 ] من جبل طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه " رواه الخمسة . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وفي رواية لأحمد صحيحة : " من شهد صلاتنا هذه ووقف بعرفات " ، وفي رواية صحيحة لسعيد : " من وقف معنا هذا الموقف وشهد معنا هذه الصلاة - يعني : صلاة الفجر - أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا - فقد تم حجه ، وقضى تفثه " .

وفي رواية له : " أفرح روعك ، من أدرك إفاضتنا هذه فقد أدرك الحج " .

وأما الإجماع . . .

التالي السابق


الخدمات العلمية