صفحة جزء
قال المصنف : - رحمه الله تعالى ( وإن وقع فيه ما لا يختلط به فغير رائحته كالدهن والطيب والعود ففيه قولان ، قال في البويطي : لا يجوز الوضوء به كالمتغير بزعفران ، وروى المزني : أنه يجوز الوضوء به ; لأن تغيره عن مجاورة ، فهو كما لو تغير بجيفة بقربه وإن وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته ففيه وجهان ( أحدهما ) : لا يجوز الوضوء به كما لو تغير بالزعفران ( والثاني ) : يجوز ; لأنه لا يختلط به ، وإنما يتغير من جهة المجاورة ) .


( الشرح ) هذان القولان مشهوران الصحيح منهما باتفاق الأصحاب : رواية المزني أنه يجوز الطهارة به ، وقطع به جمهور كبار العراقيين ، منهم الشيخ أبو حامد وصاحباه الماوردي والمحاملي في كتبه المجموع والتجريد والمقنع ، وأبو علي البندنيجي في كتابه الجامع ، والشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي الدمشقي الزاهد في كتابيه التهذيب والانتخاب وغيرهم ، وجماعة من الخراسانيين من أصحاب القفال منهم الشيخ أبو محمد في الفروق والقاضي حسين والفوراني وغيرهم .

والأصح من الوجهين في المسألة الثانية الجواز أيضا ، واعلم : أن المسألة الأولى - مسألة القولين - لا فرق فيها بين أن يكون التغير بطعم أو لون أو رائحة ، هذا هو الصواب .

وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : عندي أن التغير بالمجاورة لا يكون إلا بالرائحة ; لأن تغير اللون والطعم لا يتصور إلا بانفصال أجزاء واختلاطها ، والرائحة تحصل بدون ذلك ، [ ص: 155 ] ولهذا تتغير رائحته بما على طرف الماء لا طعمه ولونه ، وهذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو ضعيف مردود لا نعرفه لأحد من الأصحاب إلا ما سأذكره عن الماوردي - إن شاء الله تعالى - بل هو مخالف لمفهوم كلام الأصحاب وإطلاقهم المقتضي عدم الفرق بين الأوصاف الثلاثة ، بل هو مخالف لما صرح به جماعة منهم شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد وصاحبه المحاملي .

وقال أبو حامد في تعليقه في باب الماء الذي ينجس : والذي لا ينجس ، وإن وقع فيه ما لا يختلط كالعود الصلب والعنبر أو الدهن الطيب ، فإنه لا يختلط ، ولكن لو غير بعض أوصافه ، فهو مطهر ، وقال المحاملي في التجريد قال الشافعي : وإن وقع فيه قليل لا يختلط به كعود وعنبر ودهن فلا بأس . قال : ولا فرق بين أن يغير أوصاف الماء أو لا يغيره ، فهذا لفظهما ، وقولهما : أحد أوصافه ، صريح فيما ذكرته فالصواب : أنه لا فرق بين الأوصاف ، وقوله : كما لو تغير بجيفة بقربه يعني جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه ، وفي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعا بل الماء طهور بلا خلاف

وأما قوله : وإن وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته فوجهان ، فقد اضطرب المتأخرون في تصويرها ، وممن نقحها أبو عمرو بن الصلاح فقال : من فسر الكافور هنا بالصلب فقد أخطأ ; لأنه لا يبقى لقوله قليل فائدة ولا معنى ; ولأنه حينئذ تكون هي المسألة الأولى بعينها ، والصواب : أن صورته أن يكون رخوا لكنه قليل ، بحيث لا يظهر في أقطار الماء لقلته ، بل يستهلك في موضع وقوعه ، فإذا تغيرت رائحة الجميع علم أنه تغير بالمجاورة فيجيء فيه وجهان مخرجان من المسألة السابقة مسألة القولين فإن قيل : فالمغير لم يجاور الجميع ، فكيف يقال تغير الجميع بالمجاورة ؟ قلنا : لا تعتبر في المغير لمجاوره مجاورته لجميع أجزاء الماء ، فإن ذلك هو المخالط ، بل يكفي مجاورة بعضه كما في الدهن والعود ، وهذا هو الفرق بين المخالط والمجاور ، هذا كلام أبي عمرو .

وكذا ذكر صاحب البيان في كتابيه البيان ومشكلات المهذب : أن المراد ما يختلط أجزاؤه باليسير من أجزاء الماء ثم يتغير به رائحة جميع الماء ، وقد صرح بهذا الفوراني فقال في الإبانة : اليسير [ ص: 156 ] من الكافور الذي يختلط بالماء ويذوب فيه ، بحيث لا يصل جميع أجزاء الماء إذا وقع في الماء وتروح به فيه وجهان . هذا ما يتعلق بتحقيق صورة الكتاب ، وقال الماوردي : للكافور ثلاثة أحوال : حال يعلم انحلاله في الماء فيسلب ; لأنه مخالط ، وحال يعلم أنه لم ينحل فلا يسلب ; لأنه مجاور ، وحال يشك فإن تغير بطعم أو لون يسلب ، وإن تغير برائحة فوجهان . هذا كلام الماوردي ، وقوله في الحال الأول ينبغي أن يحمل على كافور كثير ; ليوافق ما سبق والله أعلم .

( فرع ) هذا أول موضع ذكر فيه البويطي والمزني وهما أجل أصحاب الشافعي - رحمهم الله - فأما البويطي بضم الباء فمنسوب إلى بويط قرية من صعيد مصر الأدنى ، وهو أبو يعقوب يوسف بن يحيى أكبر أصحاب الشافعي المصريين وخليفته في حلقته بعد وفاته ، أوصى الشافعي أن يجلس في حلقته البويطي وقال : ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى ، وليس أحد من أصحابي أعلم منه . ودام في حلقة الشافعي إلى أن جرت فتنة القول بخلق القرآن ، فحملوه إلى بغداد مقيدا ليقول بخلقه فأبى وصبر محتسبا لله تعالى ، وحبسوه ودام في الحبس إلى أن توفي فيه ، وجرى له في السجن أشياء عجيبة ، وكان البويطي رضي الله عنه طويل الصلاة ويختم القرآن كل يوم ، قال الربيع : ما رأيت البويطي بعد ما فطنت له إلا رأيت شفتيه يتحركان بذكر أو قراءة ، قال : وكان له من الشافعي منزلة ، وكان الرجل ربما سأل الشافعي مسألة فيقول : سل أبا يعقوب ، فإذا أجابه أخبره فيقول : هو كما قال ، قال الربيع : وما رأيت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله تعالى من البويطي وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة ، فيوجه الشافعي البويطي ويقول : هذا لساني . وقال أبو الوليد بن أبي الجارود : كان البويطي جاري ، وما انتبهت ساعة من الليل إلا سمعته يقرأ ويصلي ، وكان الشافعي قال لجماعة من أصحابه : أنت يا فلان يجري لك كذا وأنت كذا وقال للبويطي : ستموت في [ ص: 157 ] حديدك ، فكان كما تفرس ، جرى لكل واحد ما ذكره ، ودعي البويطي إلى القول بخلق القرآن فأبى ، فقيد وحمل إلى بغداد ، قال الربيع : رأيت البويطي وفي رجليه أربع حلق ، قيود فيها أربعون رطلا وفي عنقه غل مشدود إلى يده ، وتوفي في السجن في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين - رحمه الله . وأما المزني فهو ناصر مذهب الشافعي ، وهو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق بن مسلم بن نهدلة بن عبد الله المصري قال المصنف في الطبقات : كان المزني زاهدا عالما مجتهدا مناظرا محجاجا غواصا على المعاني الدقيقة ، صنف كتبا كثيرة منها الجامع الكبير والجامع الصغير والمختصر والمنثور ، والمسائل المعتبرة ، والترغيب في العلم ، وكتاب الوثائق . وقال الشافعي : المزني ناصر مذهبي ، قال البيهقي : ولما جرى للبويطي ما جرى كان القائم بالتدريس والتفقيه على مذهب الشافعي المزني ، وأنشد المنصور الفقيه :

لم تر عيناي وتسمع أذني أحسن نظما من كتاب المزني

، وأنشد أيضا في فضائل المختصر وذكر من فضائله شيئا كثيرا . قال البيهقي : ولا نعلم كتابا صنف في الإسلام أعظم نفعا وأعم بركة وأكثر ثمرة من مختصره ، قال : وكيف لا يكون كذلك واعتقاده في دين الله تعالى ، ثم اجتهاده في الله تعالى ، ثم في جمع هذا الكتاب ، ثم اعتقاد الشافعي في تصنيف الكتب على الجملة التي ذكرناها - رحمنا الله وإياهما وجمعنا في جنته بفضله ورحمته . وحكى القاضي حسين عن الشيخ الصالح الإمام أبي زيد المروزي - رحمه الله - قال : من تتبع المختصر حق تتبعه لا يخفى عليه شيء من مسائل الفقه ، فإنه ما من مسألة من الأصول والفروع إلا وقد ذكرها تصريحا أو إشارة ، وروى البيهقي عن أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة قال : سمعت المزني يقول : مكثت في تأليف هذا الكتاب عشرين سنة ، وألفته ثماني مرات وغيرته ، وكنت كلما أردت تأليفه أصوم قبله ثلاثة أيام وأصلي كذا وكذا ركعة . وقال الشافعي : لو ناظر المزني الشيطان لقطعه . وهذا [ ص: 158 ] قاله الشافعي والمزني في سن الحداثة ، ثم عاش بعد موت الشافعي ستين سنة يقصد من الآفاق وتشد إليه الرحال ، حتى صار كما قال أحمد بن صالح : لو حلف رجل أنه لم ير كالمزني لكان صادقا ، وذكروا من مناقبه في أنواع طرق الخير جملا نفيسة لا يحتمل هذا الموضع عشر معشارها . وهي مقتضى حاله وحال من صحب الشافعي ، توفي المزني بمصر ودفن يوم الخميس آخر شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين ، قال البيهقي : يقال كان عمره سبعا وثمانين سنة

، فهذه نبذة من أحوال البويطي والمزني ، ذكرتها تنبيها للمتفقه ليعلم محلهما ، وقد استقصيت أحوالهما بأبسط من هذا في تهذيب الأسماء وفي الطبقات وبالله التوفيق ، وقوله : قال في البويطي معناه : قال الشافعي في الكتاب الذي رواه البويطي عن الشافعي فسمي الكتاب باسم مصنفه مجازا ، كما يقول : قرأت البخاري ومسلما والترمذي والنسائي وسيبويه ونظائرها ، والله أعلم

( فرع في مسائل تتعلق بالباب إحداها ) قال الشافعي - رحمه الله - في الأم : إذا وقع في الماء قطران فتغير به ريحه جاز الوضوء به ، ثم قال بعده بأسطر إذا تغير بالقطران لم يجز الوضوء به ، كذا رأيته في الأم ، وكذا نقله القاضي أبو الطيب والمحاملي في المجموع ، وعكسه الشيخ أبو حامد والمحاملي في التجريد وغيرهما ، فقدموا النص المؤخر ، ولعل النسخ مختلفة في التقديم والتأخير ، قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : ليست على قولين بل على حالين ، فقوله : يجوز أراد إن لم يختلط بل تغير بمجاوره ، وقوله : لا يجوز يعني إذا اختلط ، وقيل القطران ضربان مختلط وغيره ، قال الماوردي : وقال بعض أصحابنا : هما قولان وهذا غلط .

( الثانية ) قال الماوردي : الماء الذي ينعقد منه ملح إن بدأ في الجمود وخرج عن حد الجاري لم تجز الطهارة به ، وإن كان جاريا فهو ضربان ضرب يصير ملحا لجوهر التربية كالسباخ التي إذا حصل فيها مطر أو غيره صار ملحا جازت الطهارة به ، وضرب يصير ملحا لجوهر الماء كأعين الملح التي ينبع ماؤها مائعا ثم يصير ملحا جامدا ، فظاهر مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه : جواز الطهارة ; لأن اسم الماء يتناوله في الحال وإن تغير في وقت آخر [ ص: 159 ] كما يجمد الماء فيصير جمدا ، وقال أبو سهل الصعلوكي : لا يجوز ; لأنه جنس آخر كالنفط ، وكذا نقل القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وجهين في الماء الذي ينعقد منه ملح وعبارة البغوي : ماء الملاحة ، والصواب الجواز مطلقا ما دام جاريا ، والله أعلم

( الثالثة ) قال الماوردي : لو وقع في الماء تمر أو قمح أو شعير أو غيرها من الحبوب وتغير به نظر ، إن كان بحاله صحيحا لم ينحل في الماء ، جازت الطهارة بذلك الماء ; لأنه تغير مجاورة ، وإن انحل لم يجز للمخالطة ، وإن طبخ ذلك الحب بالنار ، فإن انحل فيه لم يجز ، وإن لم ينحل ولم يتغير به جازت ، وإن لم ينحل وتغير به فوجهان .

قال : ولو تغير بالشمع جازت الطهارة كالدهن يعني على الصحيح من القولين ، ولو تغير بشحم أذيب فيه فوجهان ، قال : ولو تغير بالمني فوجهان ; لأنه لا يكاد يماع ولم يرجح واحدا من الوجهين والأصح : أنه لا يجوز .

( الرابعة ) : الماء المتغير بورق الشجر ، قطع الشيخ أبو حامد والماوردي بأنه طهور ، وكذا نقله الروياني عن نص الشافعي ، وذكر الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) : طهور ( والثاني ) : لا ( والثالث ) : يعفى عن الخريفي فلا يسلب بخلاف الربيعي ; لأن في الربيعي رطوبة تخالط الماء ; ولأن تساقطه نادر والخريفي يخالفه في هذين ، والأصح : العفو مطلقا ، صححه الفوراني والروياني والشاشي في كتابه المعتمد وصاحب البيان وغيرهم ، ثم الجمهور : أطلقوا المسألة وحررها الغزالي ثم الرافعي ، فقال : إن لم تتفتت الأوراق فهو تغير مجاورة ففيه القولان في العود الصحيح أنه لا يؤثر ، وإن تعفنت واختلطت ففيها الأوجه ، الأصح : العفو قال الرافعي وغيره : وهذا إذا تناثرت بنفسها ، فإن طرحت قصدا فقيل على الأوجه ، وقيل : يسلب المتفتت قطعا ، وهذا أصح قال الروياني : ولو تغير بالثمار سلب قطعا والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية