صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا يكره في هذه الأوقات ما لها سبب كقضاء الفائتة ، والصلاة المنذورة وسجود التلاوة ، وصلاة الجنازة ، وما أشبهها ; لما روي عن قيس بن قهد رضي الله عنه قال : { رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال ما هاتان الركعتان ؟ فقلت لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان } " فإن دخل المسجد في هذه الأوقات ليصلي التحية لا لحاجة غيرها ففيه وجهان : ( أحدهما ) : يصلي ; لأنه وجد سبب الصلاة ، وهو الدخول ( والثاني ) : لا يصلي ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ، ولا غروبها } " وهذا يتحرى بصلاته طلوع الشمس وغروبها )


( الشرح ) حديث قيس بن قهد ، بقاف مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم ، وإسناده ضعيف فيه انقطاع ، قال الترمذي : الأصح أنه مرسل ، وروي عن قيس بن قهد كما ذكره المصنف ، ورواه أبو داود والأكثرون : قيس بن عمرو وهو الصحيح عند جمهور أئمة الحديث وقد أشرت إلى ذلك في تهذيب الأسماء ، وكيف كان ؟ فمتن الحديث ضعيف عند أهل الحديث ويغني عنه ما سنذكره من الأحاديث الصحيحة في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله - تعالى .

وأما حديث : " { لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها } " فرواه [ ص: 78 ] البخاري ومسلم من رواية ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما حكم المسألة ) فمذهبنا : أن النهي عن الصلاة في هذه الأوقات إنما هو عن صلاة لا سبب لها ، فأما ما لها سبب فلا كراهة فيها ، والمراد بذات السبب التي لها سبب متقدم عليها ، فمن ذوات الأسباب : الفائتة فريضة كانت أو نافلة إذا قلنا بالأصح أنه يسن قضاء النوافل فله في هذه الأوقات قضاء الفرائض والنوافل الراتبة وغيرها ، وقضاء نافلة اتخذها وردا ، وله فعل المنذورة ، وصلاة الجنازة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الكسوف وصلاة الطواف ولو توضأ في هذه الأوقات فله أن يصلي ركعتي الوضوء ، صرح به جماعة من أصحابنا منهم الرافعي ، ويكره فيها صلاة الاستخارة صرح به البغوي وغيره ، وتكره ركعتا الإحرام بالحج على أصح الوجهين ، وبه قطع الجمهور ; لأن سببهما متأخر ، وبه قطع البندنيجي في كتاب الحج ( والثاني ) : لا يكره حكاه البغوي وغيره ; لأن سببهما إرادة الإحرام وهو متقدم ، وهذا الوجه قوي .

وفي صلاة الاستسقاء وجهان للخراسانيين ( أصحهما ) : لا يكره ، وحكاه الإمام والغزالي في البسيط عن الأكثرين ، وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه والعبدري ; لأن سببها متقدم ( والثاني ) : تكره كصلاة الاستخارة ، وهكذا عللوه ، قال الرافعي : وقد يمنع الأول كراهة صلاة الاستخارة ، وأما تحية المسجد فقال أصحابنا : إن دخله لغرض كاعتكاف أو لطلب علم أو انتظار صلاة ونحو ذلك من الأغراض صلى التحية ، وإن دخله لا لحاجة بل ليصلي التحية فقط فوجهان : ( أرجحهما ) الكراهة ، كما لو تعمد تأخير الفائتة ليقضيها في هذه الأوقات فإنه يكره لقوله صلى الله عليه وسلم " { لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ، ولا غروبها } " ( والثاني ) : لا يكره واختاره الإمام والغزالي في البسيط وحكى صاحب البيان وغيره وجها في كراهة تحية المسجد في هذه الأوقات من غير تفصيل ، وهذا غلط نبهت عليه لئلا يغتر به وقد حكاه الصيدلاني وإمام الحرمين والغزالي في البسيط عن أبي عبد الله الزبيري ، واتفقوا على أنه غلط

( فرع ) لو فاتته راتبة أو نافلة اتخذها وردا فقضاها في هذه الأوقات [ ص: 79 ] فهل له المداومة على مثلها في وقت الكراهة ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهم ( أحدهما ) : نعم حكاه أبو حامد عن أبي إسحاق المروزي للحديث الصحيح { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاته ركعتا سنة الظهر فقضاهما بعد العصر وداوم عليهما بعد العصر } " رواه البخاري ومسلم وأصحهما : لا .

وتلك الصلاة من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن صححه الشيخ أبو حامد .

( فرع ) في مذاهب العلماء في جواز الصلاة التي لها سبب في هذه الأوقات : قد ذكرنا أن مذهبنا أنها لا تكره ، وبه قال علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وابنه وأبو أيوب والنعمان بن بشير وتميم الداري وعائشة رضي الله عنهم .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز شيء من ذلك ووافقنا جمهور الفقهاء في إباحة الفوائت في هذه الأوقات ، وقال أبو حنيفة : تباح الفوائت بعد الصبح والعصر ، ولا تباح في الأوقات الثلاثة إلا عصر يومه فتباح عند اصفرار الشمس ، وتباح المنذورة في هذه الأوقات عندنا ، ولا تباح عند أبي حنيفة قال ابن المنذر : وأجمع المسلمون على إباحة صلاة الجنائز بعد الصبح والعصر ونقل العبدري في كتاب الجنائز عن الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق أن صلاة الجنازة منهي عنها عند طلوع الشمس ، وعند غروبها ، وعند استوائها ، ولا تكره في الوقتين الآخرين ونقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم عن داود الظاهري أنه أباح الصلاة لسبب وبلا سبب في جميع الأوقات ، والمشهور من مذهب داود منع الصلاة في هذه الأوقات ، سواء ما لها سبب وما لا سبب لها ، وهو رواية عن أحمد واحتج لأبي حنيفة وموافقيه بعموم الأحاديث الصحيحة في النهي .

واحتج أصحابنا بحديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها } " رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ مسلم وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى ركعتين بعد العصر فلما انصرف قال : يا بنت أبي أمية سألت عن الركعتين [ ص: 80 ] بعد العصر إنه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن اللتين بعد الظهر فهما هاتان الركعتان بعد العصر } " رواه البخاري ومسلم .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت : " { صلاتان لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعهما سرا ولا علانية ، ركعتان قبل صلاة الصبح وركعتان بعد صلاة العصر } " رواه البخاري ومسلم وعن يزيد بن الأسود رضي الله عنه قال { شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته وصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف ، فلما قضى صلاته وانحرف إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه ، قال : علي بهما ، فجيء بهما ترعد فرائصهما قال : ما منعكما أن تصليا معنا ؟ فقالا : يا رسول الله إنا قد كنا صلينا في رحالنا قال : فلا تفعلا فإذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة } " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

والجواب عن أحاديث النهي أنها عامة ، وهذه خاصة ، والخاص مقدم على العام سواء تقدم عليه أو تأخر ، فإن قيل : لا حجة في حديثي أم سلمة وعائشة ; لأن هذه المداومة على الصلاة بعد العصر مخصوصة بالنبي صلى الله عليه وسلم قلنا : في المسألة وجهان لأصحابنا سبقا ( أحدهما ) : جواز مثل هذا لكل أحد ( وأصحهما ) : لا تباح المداومة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم في أول يوم والله أعلم .

( فرع ) في بيان حديثين يستشكل الجمع بينهما وهما حديث النهي عن الصلاة بعد الصبح والعصر وغيرهما مع حديث : { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين } " فإذا دخل المسجد في بعض هذه الأوقات فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يصلي تحية المسجد للحديث فيها ، والجواب عن أحاديث النهي أنها مخصوصة كما سبق فإن قيل : حديث النهي عام في الصلوات خاص في بعض الأوقات وحديث التحية عام في الأوقات خاص في بعض الصلوات فلم رجحتم تخصيص حديث النهي دون تخصيص حديث التحية ؟ قلنا : حديث النهي دخله التخصيص بالأحاديث التي ذكرناها في صلاة العصر وصلاة الصبح ، وبالإجماع الذي نقلناه في صلاة الجنازة .

وأما حديث [ ص: 81 ] تحية المسجد فهو على عمومه لم يأت له مخصص .

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل يوم الجمعة في حال الخطبة بالتحية بعد أن قعد .

ولو كانت التحية تترك في وقت لكان هذا الوقت ; لأنه يمنع في حال الخطبة من الصلاة إلا التحية ، ولأنه تكلم في الخطبة وبعد أن قعد الداخل ، وكل هذا مبالغة في تعميم التحية .

( فرع ) عن وهب بن الأجدع عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة } " وفي رواية ( نقية ) رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن وظاهره يخالف الأحاديث الصحيحة في تعميم النهي من حين صلاة العصر إلى غروب الشمس ويخالف أيضا ما عليه مذاهب جماهير العلماء وجوابه مر .

التالي السابق


الخدمات العلمية