صفحة جزء
[ ص: 267 ] قال المصنف رحمه الله تعالى باب الآنية ( كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله صلى الله عليه وسلم : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } ولأن الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ ، وأما الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لأن الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن الكلب والخنزير فكذلك الدباغ ) .


( الشرح ) : الآنية جمع إناء وجمع الآنية الأواني ، فالإناء مفرد وجمعه آنية والأواني جمع الجمع فلا يستعمل في أقل من تسعة إلا مجازا . وأما استعمال الغزالي رحمه الله وجماعة من الخراسانيين الآنية في المفرد فليس بصحيح في اللغة ، قال الجوهري : جمع الإناء آنية وجمع الآنية الأواني كسقاء وأسقية وأساق . وأما الحديث المذكور فصحيح رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أما مسلم فذكره في آخر كتاب الطهارة وأما أبو داود والترمذي ففي كتاب اللباس والنسائي في الذبائح وهذا المذكور لفظ رواية الترمذي وقليلين ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح وأما رواية مسلم وأبي داود وآخرين ففيها " { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } وقد جمعت طرقه واختلاف ألفاظه في كتاب جامع السنة . ويقال طهر بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح وأشهر وقد سبق بيانه في أول كتاب الطهارة . وأما الإهاب بكسر الهمزة فجمعه أهب بضم الهمزة والهاء ، وأهب بفتحهما لغتان ، واختلف أهل اللغة فيه فقال إمام اللغة والعربية أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد رحمه الله الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ ، وكذا ذكره أبو داود السجستاني في سننه وحكاه عن النضر بن شميل ولم يذكر غيره ، وكذا قاله الجوهري وآخرون من أهل اللغة ، وذكر الأزهري في شرح ألفاظ المختصر والخطابي وغيرهما أنه الجلد ولم يقيدوه بما لم يدبغ . [ ص: 268 ] الخنزير معروف واختلف أهل العربية في نونه هل هي زائدة أم أصلية ؟ وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات .

وأما قول المصنف : " فكل حيوان نجس بالموت " فمعناه حكمنا بعد موته بأنه نجس فيدخل فيه الكلب والخنزير فلهذا استثناه المصنف فقال : ما عدا الكلب والخنزير ، وقد ادعى بعضهم أن هذا الاستثناء ليس بصحيح وأنه لا حاجة إليه وزعم أن بقوله : " نجس بالموت " يخرج الكلب والخنزير لأنه لم ينجس بالموت بل كان نجسا قبله واستمرت نجاسته ، هذا الإنكار باطل وإنما حصل الإنكار لحمله كلام المصنف على غير مراده الذي ذكرته فالصواب ما قدمته والله أعلم .

( أما حكم المسألة ) فكل الجلود النجسة بعد الموت تطهر بالدباغ إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، وهذا متفق عليه عندنا وسنذكر مذاهب العلماء فيه إن شاء الله تعالى في فرع ، وحكى المتولي والروياني وجها أن جلد الميتة ليس بنجس . حكاه المتولي عن حكاية ابن القطان قال وإنما أمر بالدبغ بسبب الزهومة التي في الجلد فإنها نجسة فيؤمر بالدبغ لإزالتها كما يغسل الثوب من النجاسة ، وهذا الوجه في نهاية الضعف وغاية الشذوذ ، وفساده أظهر من أن يذكر . وكيف يصح هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } . فإن قيل : ليس في الحديث أن الجلد نجس العين فتحمل الطهارة فيه على الطهارة من نجاسة المجاورة بالزهومة كما يقال : طهر ثوبه إذا غسل من النجاسة ، فالجواب أن هذا تأويل بعيد ليس له دليل يعضده ولا حاجة تسنده فهو مردود على قائله ، وتخصيصه الجلد بالطهارة دون باقي الأعضاء والأجزاء دليل على تناقض قوله وقد قال إمام الحرمين : اتفق علماؤنا على أن جلد الميتة قبل الدباغ نجس ، وكذا صرح بنقل الاتفاق عليه آخرون ، والله أعلم .

وأما الكلب والخنزير وفرع أحدهما فلا يطهر جلده بالدباغ بلا خلاف لما ذكره المصنف ، وقوله : فلا يطهر جلدها بالدباغ وفي بعض النسخ المعتمدة جلدهما بالتثنية ، وكلاهما صحيح ، فالتثنية تعود إلى النوعين ، وقوله : [ ص: 269 ] جلدها يعود إلى الأنواع الأربعة الكلب والخنزير واللذان بعدهما

وأما قوله : ( كل حيوان نجس بالموت ) فاحتراز مما لا ينجس بالموت بل يبقى طاهرا ، وذلك خمسة أنواع ذكرها صاحب الحاوي : السمك والجراد والجنين بعد ذكاة أمه ، والصيد إذا قتله الكلب أو السهم بشرطه ، والخامس الآدمي على أصح القولين . فهذه ميتات طاهر لحمها وجلدها ، فأما الجراد فلا جلد له والسمك منه ما لا جلد له ومنه ما له جلد كعظيم حيتان البحر ، والجنين والصيد لهما جلد فيتصرف فيه بلا دباغ جميع أنواع التصرف من بيع واستعمال في يابس ورطب وغير ذلك . وأما الآدمي فإذا قلنا بالصحيح : أنه لا ينجس بالموت فجلده طاهر لكن لا يجوز استعمال جلده ولا شيء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ، اتفق أصحابنا على تحريمه وصرحوا بذلك في كتبهم منهم إمام الحرمين وخلائق ، قال الدارمي في الاستذكار : لا يختلف القول أن دباغ جلود بني آدم واستعمالها حرام ، ونقل الإمام الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم في كتابه كتاب الإجماع إجماع المسلمين على تحريم سلخ جلد الآدمي واستعماله وإن قلنا بالقول الضعيف : أن الآدمي ينجس بالموت فجلده نجس وهل يطهر بالدبغ ؟ فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين وابن الصباغ والغزالي وغيرهم الصحيح منهما أنه يطهر وهو اختيار المصنف والجمهور ، لأنهم قالوا : كل جلد نجس بالموت طهر بالدباغ ودليله عموم الحديث : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } ( والوجه الثاني ) لا يطهر بالدبغ لأن دباغه حرام لما فيه من الامتهان ، قال إمام الحرمين : وهذا فاسد لأن الدباغ لا يحرم لعينه وإنما المحرم حصول الامتهان على أي وجه حصل ، وأغرب الدارمي وابن الصباغ ، وذكرا وجها أنه لا يتأتى دباغه والله أعلم .

[ ص: 270 ] فرع في مذاهب العلماء في جلود الميتة هي سبعة مذاهب أحدها : لا يطهر بالدباغ شيء من جلود الميتة لما روي عن عمر بن الخطاب وابنه وعائشة رضي الله عنهم وهو أشهر الروايتين عن أحمد ورواية عن مالك . والمذهب الثاني : يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي داود وإسحاق بن راهويه . والثالث : يطهر به كل جلود الميتة إلا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو مذهبنا ، وحكوه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما والرابع : يطهر به الجميع إلا جلد الخنزير وهو مذهب أبي حنيفة . والخامس : يطهر الجميع والكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب ويصلى عليه لا فيه ، وهو مذهب مالك فيما حكاه أصحابنا عنه . والسادس : يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا ، قال داود وأهل الظاهر ، وحكاه الماوردي عن أبي يوسف . والسابع : ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ ويجوز استعمالها في الرطب واليابس حكوه عن الزهري . واحتج لأحمد وموافقيه بأشياء منها قول الله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } وهو عام في الجلد وغيره وبحديث عبد الله بن عكيم قال : أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : قبل موته بشهر { ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } وهذا الحديث هو عمدتهم قالوا : ولأنه جزء من الميتة فلم يطهر بشيء كاللحم ، ولأن المعنى الذي نجس به هو الموت وهو ملازم له لا يزول بالدبغ فلا يتغير الحكم . واحتج أصحابنا بالحديثين السابقين : { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } { وأيما إهاب دبغ فقد طهر } وهما صحيحان كما سبق بيانه ، وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة : هلا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به قالوا : يا رسول الله إنها ميتة قال : { إنما حرم أكلها } رواه البخاري ومسلم في [ ص: 271 ] صحيحيهما من طرق ، أما مسلم فرواه في آخر كتاب الطهارة ، وأما البخاري فرواه في مواضع من صحيحه منها كتاب الزكاة في الصدقة على موالي أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الصيد والذبائح وغيره . وإنما ذكرت هذا لأن بعض الأئمة والحفاظ جعله من أفراد مسلم كأنه خفي عليه مواضعه من البخاري ، واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا } رواه البخاري ، هكذا رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس قال : { ماتت شاة لسودة فقالت : يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا أخذتم مسكها ؟ فقالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت } وذكر تمام الحديث كرواية البخاري . وبحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت } حديث حسن رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي وآخرون بأسانيد حسنة . وأبو داود وابن ماجه في اللباس ، والنسائي في الذبائح . وبحديث ابن عباس قال : { أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سقاء فقيل له : إنه ميتة فقال : دباغه يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه } رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين وقال : حديث صحيح ، ورواه البيهقي وقال : هذا إسناد صحيح . وبحديث جون ( بفتح الجيم ) ابن قتادة عن سلمة بن المحبق ( بالحاء المهملة وبفتح الباء الموحدة المشددة وكسرها ) رضي الله عنه { أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة قالت : ما عندي إلا في قربة لي ميتة قال : أليس قد دبغتها ؟ قالت : بلى قال : فإن دباغها ذكاتها } رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ، إلا أن جونا اختلفوا فيه قال أحمد بن حنبل : هو مجهول وقال علي بن المديني : هو معروف . وفي المسألة أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية ، ولأنه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهر كجلد المذكاة إذا تنجس . وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية فهو أنها عامة خصتها السنة . وأما حديث عبد الله بن عكيم فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال [ ص: 272 ] الترمذي : هو حديث حسن ، قال : وسمعت أحمد بن الحسن يقول : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن عكيم هذا لقوله : " قبل وفاته بشهرين " وكان يقول : هذا آخر الأمر ، قال : ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة . هذا كلام الترمذي . وقد روي هذا الحديث " قبل موته بشهر " وروي " بشهرين " وروي ( بأربعين يوما ) قال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار وآخرون من الأئمة الحفاظ : هذا الحديث مرسل وابن عكيم ليس بصحابي ، وقال الخطابي : مذهب عامة العلماء جواز الدباغ ووهنوا هذا الحديث لأن ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو حكاية عن كتاب أتاهم ، وعللوه أيضا بأنه مضطرب ، وعن مشيخة مجهولين لم تثبت صحبتهم . إذا عرف هذا فالجواب عنه من خمسة أوجه ( أحدها ) ما قدمناه عن الحفاظ أنه حديث مرسل ( والثاني ) أنه مضطرب كما سبق وكما نقله الترمذي عن أحمد ولا يقدح في هذين الجوابين قول الترمذي : إنه حديث حسن ، لأنه قاله عن اجتهاده ، وقد بين هو وغيره وجه ضعفه كما سبق ( الثالث ) أنه كتاب ، وأخبارنا سماع وأصح إسنادا وأكثر رواة وسالمة من الاضطراب فهي أقوى وأولى ( الرابع ) أنه عام في النهي ، وأخبارنا مخصصة للنهي بما قبل الدباغ مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ ، والخاص مقدم .

( والخامس ) أن الإهاب الجلد قبل دباغه ولا يسمى إهابا بعده كما قدمناه عن الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وأبي داود السجستاني والجوهري وغيرهم ، فلا تعارض بين الحديثين بل النهي لما قبل الدباغ تصريحا . فإن قالوا : خبرنا متأخر فقدم ، فالجواب من أوجه ( أحدها ) لا نسلم [ ص: 273 ] تأخره على أخبارنا لأنها مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون شهرين وشهر ( الثاني ) أنه روي قبل موته بشهر وروي شهرين وروي أربعين يوما كما سبق ، وكثير من الروايات ليس فيها تاريخ ، وكذا هو في روايتي أبي داود والترمذي وغيرهما . فحصل فيه نوع اضطراب فلم يبق فيه تاريخ يعتمد ( الثالث ) لو سلم تأخره لم يكن فيه دليل لأنه عام ، وأخبارنا خاصة ، والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر كما هو معروف عن الجماهير من أهل أصول الفقه . وأما الجواب عن قياسهم على اللحم فمن وجهين ( أحدهما ) أنه قياس في مقابلة نصوص فلا يلتفت إليه ( والثاني ) أن الدباغ في اللحم لا يتأتى وليس فيه مصلحة له ، بل يمحقه بخلاف الجلد فإنه ينظفه ويطيبه ويصلبه ، وبهذين الجوابين يجاب عن قولهم : العلة في التنجيس الموت وهو قائم والله أعلم .

وأما الأوزاعي ومن وافقه فاحتج لهم بما روى أبو المليح عامر بن أسامة عن أبيه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن جلود السباع } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ورواه الحاكم في المستدرك وقال : حديث صحيح . وفي رواية الترمذي وغيره { نهى عن جلود السباع أن تفترش } ، قالوا : فلو كانت تطهر بالدباغ لم ينه عن افتراشها مطلقا ، وبحديث سلمة بن المحبق الذي قدمناه : { دباغ الأديم ذكاته } قالوا : وذكاة ما لا يؤكل لا تطهره قالوا : ولأنه حيوان لا يؤكل فلم يطهر جلده بالدبغ كالكلب . واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم : { أيما إهاب دبغ فقد طهر } وبحديث : { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } وهما صحيحان كما سبق ، وهما عامان لكل جلد . وبحديث عائشة : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت } وهو حديث حسن كما سبق . وبحديث ابن عباس الذي ذكرناه عن المستدرك وغير ذلك من الأحاديث العامة فهي [ ص: 274 ] على عمومها إلا ما أجمعنا على تخصيصه وهو الكلب والخنزير فإن قالوا : جلد ما لا يؤكل لا يسمى إهابا كما حكاه عنهم الخطابي ، فالجواب أن هذا خلاف لغة العرب . قال الإمام أبو منصور الأزهري : جعلت العرب جلد الإنسان إهابا وأنشد فيه قول عنترة :

فشككت بالرمح الأصم إهابه

.

أراد رجلا لقيه في الحرب فانتظم جلده بسنان رمحه ، وأنشد الخطابي وغيره فيه أبياتا كثيرة منها قول ذي الرمة :

لا يدخران من الإيغام باقية     حتى تكاد تفرى عنهما الأهب

وعن عائشة في وصفها أبيها رضي الله عنهما قالت : " وحقن الدماء في أهبها " تريد دماء الناس ، وهذا مشهور لا حاجة إلى الإطالة فيه ولأنه جلد حيوان طاهر فأشبه المأكول .

وأما الجواب عن حديثهم الأول فمن وجهين أحسنهما وأصحهما ولم يذكر البيهقي وآخرون غيره أن النهي عن افتراش جلود السباع إنما كان لكونها لا يزال عنها الشعر في العادة ، لأنها إنما تقصد للشعر كجلود الفهد والنمر . فإذا دبغت بقي الشعر نجسا فإنه لا يطهر بالدبغ على المذهب الصحيح ، فلهذا نهي عنها ( الثاني ) أن النهي محمول على ما قبل الدبغ ، كذا أجاب بعض أصحابنا وهو ضعيف ، إذ لا معنى لتخصيص السباع حينئذ بل كل الجلود في ذلك سواء وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنها خصت بالذكر لأنها كانت تستعمل قبل الدباغ غالبا أو كثيرا . والجواب عن حديث مسلمة أن المراد أن دباغ الأديم مطهر له ومبيح لاستعماله كالذكاة . وأما قياسهم على الكلب فجوابه أنه نجس في حياته فلا يزيد الدباغ على الحياة والله أعلم .

وأما أبو حنيفة في قوله يطهر بالدبغ جلد الكلب ، وداود في قوله والخنزير فاحتج لهما بعموم الأحاديث السابقة وبالقياس على الحمار وغيره ، واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركتها لأني التزمت في خطبة الكتاب الإعراض عن الدلائل الواهية . واحتجوا بأن الحياة أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة ، والدباغ إنما يطهر [ ص: 275 ] الجلد ، فإذا كانت الحياة لا تطهر الكلب والخنزير فالدباغ أولى ، ولأن النجاسة إنما تزول بالمعالجة إذا كانت طارئة كثوب تنجس ، أما إذا كانت لازمة للعين فلا ، كالعذرة والروث فكذا الكلب . وأما احتجاجهم بالأحاديث فأجاب الأصحاب لأنها عامة مخصوصة بغير الكلب والخنزير لما ذكرناه ، وجواب آخر لأبي حنيفة أنا اتفقنا نحن وأنتم على إخراج الخنزير من العموم ، والكلب في معناه ، وأما قياسهم على الحمار فالفرق أنه طاهر في الحياة فرده الدباغ إلى أصله والله أعلم .

وأما مالك ومن وافقه فاحتجوا في طهارة ظاهره دون باطنه بأن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر ، واحتج أصحابنا بعموم الأحاديث الصحيحة السابقة كحديث : { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } وغيره فهي عامة في طهارة الظاهر والباطن . وبحديث سودة المتقدم قالت : { ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها وهو جلدها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا } حديث صحيح كما سبق وهو صريح في المسألة فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه ، وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه ; لأن الماء لا ينجس عندهم إلا بالتغير ، قال أصحابنا : ولأن ما طهر ظاهره طهر باطنه كالذكاة . وأما الجواب عن قولهم : إنما يؤثر الدباغ في الظاهر . فمن وجهين ( أحدهما ) لا نسلم ، بل يؤثر في الباطن أيضا بانتزاع الفضلات وتنشيف رطوباته المعفنة كتأثيره في الظاهر ( والثاني ) أن ما ذكره مخالف للنصوص الصحيحة الصريحة فلا يلتفت إليه والله أعلم .

وأما الزهري فاحتج برواية جاءت في حديث ابن عباس : { هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به } ولم يذكر الدباغ ، واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة ، وأما هذه الرواية فمطلقة محمولة على الروايات الصحيحات المشهورات والله أعلم .

وذكر إمام الحرمين في النهاية مذاهب السلف بنحو ما سبق ثم قال : ولا يستند على هذا السبر غير مذهب الشافعي ، فإن من قال يؤثر الدباغ [ ص: 276 ] في المأكول خاصة تعلقوا بخصوص السبب في شاة ميمونة . وليس ذلك بصحيح فإن اللفظ عام مستقل بالإفادة ، وأبو حنيفة لم يطرد مذهبه في الخنزير عملا بالعموم ولا يظهر فرق بين الكلب والخنزير . وأما الشافعي فإنه نظر إلى ما أمر به الشرع من استعمال الأشياء الجائزة كالقرظ ، وغاص على فهم المعنى وهو أن سبب نجاسة الجلود بالموت لأنها بانقطاع الحياة عنها تتعرض للبلى والعفن والنتن ، فإذا دبغت لم تتعرض للتغير ، وقد بطل حمل اللفظ على خصوص السبب وامتنع التعميم لما ذكرنا في جلد الخنزير ، وأرشد الدباغ إلى معنى يضاهي به المدبوغ الحيوان في حال الحياة فإن الحياة دافعة للعفن ، والموت جالب له ، والدباغ يرده إلى مضاهاة الحياة في السلامة من التغير ، فانتظم بذلك اعتبار المدبوغ بالحي فقال : كل ما كان في الحياة طاهرا عاد جلده بالدبغ طاهرا ، وما كان نجسا لا يطهر ، ثم ثبت عنده نجاسة الكلب من نجاسة لعابه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية