صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن يتسحر للصوم ، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تسحروا فإن في السحور بركة } ولأن فيه معونة على الصوم ، ويستحب تأخير السحور ; لما روي أنه قيل لعائشة : { إن عبد الله يعجل الفطر ويؤخر السحور ، فقالت : هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل } ولأن السحور يراد للتقوي على الصوم ، والتأخير أبلغ في ذلك فكان أولى ، والمستحب أن يعجل الفطر إذا تحقق غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يزال هذا الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ، إن اليهود والنصارى يؤخرون . } )


[ ص: 404 ] ( الشرح ) حديث أنس رواه البخاري ومسلم .

وحديث عائشة في قصة عبد الله رواه مسلم ، وعبد الله هذا هو ابن مسعود ، وينكر على المصنف قوله : روى بصيغة التمريض ، وهو حديث صحيح ، وإنما تقال صيغة التمريض في ضعيف . وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات كثيرة . وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود بلفظه هذا ، إلا أنه قال : { لأن اليهود والنصارى يؤخرون } وفي نسخ المهذب ( أن اليهود ) وكذا رواه البيهقي في السنن الكبيرة وابن ماجه بإسناد صحيح فينبغي أن يقرأ بفتح الهمزة من أن ; ليوافق رواية أبي داود ، وهذا الحديث أصله في الصحيحين من رواية سهل بن سعد كما سأذكره في فرع منفرد للأحاديث الواردة في السحور ، ورواية أبي هريرة التي ذكرها المصنف وأبو داود وإسنادها صحيح على شرط مسلم . وقوله صلى الله عليه وسلم : { فإن في السحور بركة } روي - بفتح السين - وهو المأكول كالخبز وغيره - وبضمها - وهو الفعل والمصدر ، وسبب البركة فيه تقويته الصائم على الصوم ، وتنشيطه له ، وفرحه به - وتهوينه عليه ، وذلك سبب لكثرة الصوم .

( أما حكم المسألة ) فاتفق أصحابنا وغيرهم من العلماء على أن السحور سنة ، وأن تأخيره أفضل وعلى أنتعجيل الفطر سنة بعد تحقق غروب الشمس ، ودليل ذلك كله الأحاديث الصحيحة ، ولأن فيهما إعانة على الصوم ، ولأن فيهما مخالفة للكفار كما في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب ، والحديث الصحيح الذي سأذكره إن شاء الله تعالى " { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } " ولأن محل الصوم هو النهار فلا معنى لتأخير الفطر والامتناع من السحور في آخر الليل ; ولأن بغروب الشمس صار مفطرا فلا فائدة في تأخير الفطر . قال أصحابنا : وإنما يستحب تأخير السحور ما دام متيقنا بقاء الليل : فمتى حصل شك فيه فالأفضل تركه ، وقد سبقت المسألة في فصل وقت الدخول في الصوم . وقد نص الشافعي في الأم على أنه إذا شك في بقاء الليل ولم يتسحر يستحب له ترك السحور ، فإن تسحر في هذه الحالة صح صومه [ ص: 405 ] لأن الأصل بقاء الليل . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال الشافعي في الأم إذا أخر الإفطار بعد تحقق غروب الشمس ، فإن كان يرى الفضل في تأخيره كرهت ذلك ; لمخالفة الأحاديث ، وإن لم ير الفضل في تأخيره فلا بأس ; لأن الصوم لا يصلح في الليل . هذا نصه .

( فرع ) وقت السحور بين نصف الليل وطلوع الفجر .

( فرع ) يحصل السحور بكثير المأكول وقليله ، ويحصل بالماء أيضا ، وفيه حديث سنذكره .

( فرع ) قال ابن المنذر في الأشراف : أجمعت الأمة على أن السحور مندوب إليه مستحب لا إثم على من تركه . فرع في الأحاديث الواردة في السحور وتأخيره وتعجيل الفطر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تسحروا فإن في السحور بركة } رواه البخاري ومسلم . وعن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر } رواه مسلم . أكلة السحر بفتح الهمزة هي السحور ، وعن المقدام بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { عليكم بهذا السحور فإنه هو الغذاء المبارك } رواه النسائي بإسناد جيد ورواه أبو داود والنسائي من رواية العرباض بن سارية بمعناه وفي إسناده نظر .

وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر } رواه البخاري ومسلم وسبق في الكتاب معناه من رواية أبي هريرة بزيادة . وعن أبي عطية قال : { دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلنا : يا أم المؤمنين ، رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة ، والآخر يؤخر الإفطار ، ويؤخر الصلاة فقالت : أيهما الذي يعجل الإفطار ويعجل الصلاة ؟ [ ص: 406 ] قلنا : عبد الله بن مسعود . قالت : كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم } رواه مسلم ، وفي رواية له " يعجل المغرب " .

وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور } رواه الإمام أحمد .

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : { أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا } رواه الترمذي وقال حديث حسن . وعن ابن عمر قال : { كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، قال : ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا } رواه البخاري ومسلم . وعن نافع عن ابن عمر ، وعن القاسم عن عائشة { أن بلالا كان يؤذن بليل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ، فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر } رواه البخاري . وعن زيد بن ثابت قال : { تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، قلت : كم كان قدر ما بينهما ؟ قال : خمسين آية } رواه البخاري ومسلم .

وعن سهل بن سعد قال : " كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري . وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { تسحروا ولو بجرعة ماء } وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم { أكلة السحر بركة فلا تدعوه ، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء } رواهما ابن أبي عاصم في كتابه بإسنادين ضعيفين ، وفي الباب أحاديث كثيرة غير ما ذكرته .

( وأما ) ما رواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة عن حميد بن عبد الرحمن " أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان " فقال البيهقي في المبسوط : قال الشافعي : كأنهما يريان تأخير الفطر واسعا ، لا أنهما يتعمدان فضيلة في ذلك . ونقل الماوردي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يؤخران الإفطار ، وأجاب بأنهما أرادا بيان جواز ذلك لئلا يظن وجوب التعجيل ، وهذا [ ص: 407 ] التأويل ظاهر ، فقد روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عمرو بن ميمون ، وهو من أكبر التابعين قال : " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس إفطارا وأبطأهم سحورا " وأما الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل إفطارنا ونؤخر سحورنا ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة } فضعيف ، رواه البيهقي هكذا من رواية ابن عباس ، ومن رواية ابن عمر ، ومن رواية أبي هريرة ، وقال : كلها ضعيفة ( وأصح ) ما ورد فيه من كلام عائشة موقوفا عليها وفي حديث رواه البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { نعم سحور المؤمن التمر } .

التالي السابق


الخدمات العلمية