صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( والأفضل أن يعتكف بصوم . { لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في شهر رمضان } فإن اعتكف بغير صوم جاز لحديث عمر رضي الله عنه " { إني نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك } ولو كان الصوم شرطا ، لم يصح بالليل وحده . وإن نذر أن يعتكف يوما بصوم فاعتكف بغير صوم ففيه وجهان قال أبو علي الطبري : يجزئه الاعتكاف عن النذر ، وعليه أن يصوم يوما ; لأنهما عبادتان تنفرد كل واحدة منهما عن الأخرى فلم يلزم الجمع بينهما بالنذر كالصوم والصلاة ، وقال عامة أصحابنا : لا يجزئه ، وهو المنصوص في الأم ; لأن الصوم صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع ، ويخالف الصوم والصلاة ، لأن أحدهما ليس صفة مقصودة في الآخر ) .


( الشرح ) أما اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فصحيح ثابت في الصحيحين من رواية ابن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري وصفية أم المؤمنين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم . ( وأما ) حديث عمر فرواه البخاري ومسلم كما سبق ، وفي رواية للبخاري " أوف بنذرك ، اعتكف ليلة " وفي رواية لمسلم " قال : { يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوما قال : اذهب فاعتكف يوما } .

( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب : الأفضل أن يعتكف صائما ، ويجوز بغير صوم ، وبالليل ، وفي الأيام التي لا تقبل [ ص: 509 ] الصوم ، وهي العيد والتشريق . هذا هو المذهب ، وبه قطع الجماهير في جميع الطرق . وحكى الشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين وآخرون قولا قديما أن الصوم شرط ، فلا يصح الاعتكاف في يوم العيد والتشريق ، ولا في الليل المجرد . قال إمام الحرمين : قال الأئمة : إذا قلنا بالقديم ، لم يصح الاعتكاف بالليل لا تبعا ولا منفردا ، ولا يشترط الإتيان بصوم من أجل الاعتكاف ، بل يصح الاعتكاف في رمضان ، وإن كان صومه مستحقا شرعا مقصودا ، والمذهب أن الصوم ليس بشرط ، وسنبسط أدلته إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء ، فإذا قلنا بالمذهب فنذر أن يعتكف يوما هو فيه صائم ، أو أياما هو فيها صائم ، لزمه الاعتكاف بصوم بلا خلاف ، وليس له إفراد الصوم عن الاعتكاف ولا عكسه بلا خلاف ، صرح به المتولي والبغوي والرافعي وآخرون . قالوا : ولو اعتكف هذا الناذر في رمضان أجزأه ، لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما ، وإنما نذر الاعتكاف بصفة ، وقد وجدت ، قال المتولي : وكذا لو اعتكف في غير رمضان صائما عن قضاء أو عن نذر أو عن كفارة أجزأه ; لوجود الصفة .

( أما ) إذا نذر أن يعتكف صائما أو يعتكف بصوم ، فإنه يلزمه الاعتكاف والصوم ، وهل يلزمه الجمع بينهما ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران .

( أحدهما ) لا يلزمه ، بل له إفرادهما ، قاله أبو علي الطبري ( وأصحهما ) يلزمه ، وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين وهو المنصوص في الأم كما ذكره المصنف ، وهو الصحيح عند المصنفين ، فعلى هذا لو شرع في الاعتكاف صائما ثم أفطر لزمه أن يستأنف الصوم والاعتكاف ، وعلى الأول يكفيه استئناف الاعتكاف ، ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائما فجامع ليلا ، ففيه هذان الوجهان ( أصحهما ) يستأنفهما .

( والثاني ) يستأنف الصوم دون الاعتكاف ، لأن الاعتكاف لم يفسد ، ولو اعتكف في رمضان أجزأه على وجه أبي علي الطبري عن الاعتكاف ، وعليه أن يصوم ، ولا يجزئه على الصحيح المنصوص ، [ ص: 510 ] بل يلزمه استئنافهما ، ولو نذر أن يصوم معتكفا فطريقان ( أحدهما ) وبه قال الشيخ أبو محمد الجويني : لا يلزمه الجمع بينهما ، بل له تفريقهما وجها واحدا ، لأن الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم بخلاف عكسه ، فإن الصوم من مندوبات الاعتكاف ( وأصحهما ) وبه قال الأكثرون فيه الوجهان السابقان كعكسه ( أصحهما ) وبه قال الجمهور لزوم الجمع . قال إمام الحرمين : لا أرى لما قاله أبو محمد وجها ، بل يجري الوجهان سواء نذر الصوم معتكفا أو الاعتكاف صائما ، ولو نذر أن يصلي معتكفا أو يعتكف مصليا لزمه الاعتكاف والصلاة ، وفي لزوم الجمع بينهما طريقان حكاهما المتولي والبغوي وآخرون .

( أحدهما ) أنه على الوجهين فيمن نذر الاعتكاف صائما ( وأصحهما ) وبه قطع إمام الحرمين وغيره من المحققين لا يجب الجمع بينهما ، بل له التفريق وجها واحدا والفرق أن الصوم والاعتكاف متقاربان في أن كلا منهما بخلاف الصلاة فإنها أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف ، فلم يشترط جمعهما ، فإن لم يوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة ، فالذي يلزمه من الصلاة هو الذي يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر ، وهي ركعتان في أصح القولين ، وركعة في الآخر . وإن أوجبنا الجمع لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه ، ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة ، فإن نذر اعتكاف أيام مصليا ، لزمه ركعتان لكل يوم على الأصح أو ركعة في القول الآخر ، ولا يلزمه أكثر من ذلك ، هكذا جزم به البغوي وغيره . قال الرافعي : ولك أن تقول : إن ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب ، فإن تركنا الظاهر فلماذا يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة كل يوم ؟ وهلا اكتفى به واحدة عن جميع الأيام ؟ ولو نذر أن يصوم مصليا لزمه الصوم والصلاة ولا يلزمه الجمع بينهما بالاتفاق ، وقد صرح به المصنف في قياسه ، ووافقه الأصحاب ، ولو نذر القران بين الحج والعمرة فله تفريقهما وهو أفضل ، هذا هو الصواب المعروف وأشار إمام الحرمين هنا في قياسه إلى وجوب جمعهما فإنه قال في توجيه أصح الوجهين فيمن نذر الاعتكاف صائما : إنه يلزمه الجمع كما لو نذر أن يقرن بين الحج والعمرة ، وهذا الذي قاله شاذ مردود بل غلط لا يعد خلافا والمسألة [ ص: 511 ] مشهورة بجواز التفريق ، وسنزيدها إيضاحا في كتاب النذر إن شاء الله تعالى ، ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة معينة لزمه الصلاة ، وقراءة السورة ، وفي لزوم الجمع بينهما وجواز التفريق الوجهان السابقان ، فيمن نذر الاعتكاف صائما قاله القفال وتابعه إمام الحرمين وآخرون وهو ظاهر .

( فرع ) لو نذر أن يعتكف شهر رمضان ففاته لزمه اعتكاف شهر آخر ، ولا يلزمه الصوم بلا خلاف ، صرح به أصحابنا ، منهم الصيدلاني ، لأنه لم يلزمه الصوم وإنما كان يحصل الصوم لو اعتكف في رمضان اتفاقا .

( فرع ) في مذاهب العلماء في الصوم في الاعتكاف . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه مستحب وليس شرطا لصحة الاعتكاف على الصحيح عندنا وبهذا قال الحسن البصري وأبو ثور وداود وابن المنذر ، وهو أصح الروايتين عن أحمد ، قال ابن المنذر : وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة والزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق في رواية عنهما : لا يصح إلا بصوم . قال القاضي عياض : وهو قول جمهور العلماء . واحتج لهؤلاء { بأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف هو وأصحابه رضي الله عنهم صياما في رمضان } وبحديث سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا اعتكاف إلا بصيام } رواه الدارقطني وقال : تفرد به سويد عن سفيان بن حسين ( قلت ) بكيرا بن عبد العزيز ضعيف باتفاق المحدثين . وعن عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر عن عمر { أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكاف عليه فأمره أن يعتكف ويصوم } رواه أبو داود والدارقطني ، وقال : تفرد به ابن بديل [ ص: 512 ] وهو ضعيف ، وفي رواية قال : { اعتكف وصم } قال الدارقطني : سمعت أبا بكر النيسابوري يقول : هذا حديث منكر .

واحتج أصحابنا بحديث عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال } رواه مسلم بهذا اللفظ ، ورواه البخاري وقال : " عشرة من شوال " والمراد به الأول كما في رواية مسلم ، وهذا يتناول اعتكاف يوم العيد ، ويلزم من صحته أن الصوم ليس بشرط ، وبحديث عمر رضي الله عنه { أنه نذر أن يعتكف ليلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية للبخاري { أوف بنذرك اعتكف ليلة } وفي رواية لمسلم { إني نذرت أن أعتكف يوما ، فقال : اذهب فاعتكف يوما } . وهذا لا يخالف رواية البخاري ولا الرواية المشهورة ; لأنه يحتمل أنه سأله عن اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوم فأمره بالوفاء بما نذر فيحصل منه صحة اعتكاف الليلة وحدها ، ويؤيد هذا رواية نافع عن ابن عمر { أن عمر نذر أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أوف بنذرك ، فاعتكف عمر ليلة } رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح ثابت ، وبحديث طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه } رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك قال : هو حديث صحيح على شرط مسلم ، ورواه الدارقطني وقال رفعه هذا الشيخ وغيره ولا يرفعه ، يعني أبا بكر محمد بن إسحاق السوسي . وقد ذكرنا مرات أن الحديث الذي يرويه بعض الثقات مرفوعا وبعضه موقوفا يحكم بأنه مرفوع لأنها زيادة ثقة ، هذا هو الصحيح الذي عليه المحققون ، وبه قال الفقهاء وأصحاب الأصول وحذاق المحدثين .

( وأما الجواب ) عما احتج به الأولون من اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في رمضان فمحمول على الاستحباب لا على الاشتراط ، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال كما قدمناه ، فوجب حمل الأول على الاستحباب للجمع بين الأحاديث ، مع أنه لا يلزم من مجرد الاعتكاف في رمضان اشتراط الصوم ، [ ص: 513 ] واستدل المزني أيضا بأنه لو كان الصوم شرطا لم يصح الاعتكاف في رمضان ، لأن صومه مستحق لغير الاعتكاف .

( وأما الجواب ) عن حديث عائشة { لا اعتكاف إلا بصوم } فمن وجهين ( أحدهما ) أنه ضعيف بالاتفاق كما سبق بيانه ( والثاني ) لو ثبت لوجب حمله على الاعتكاف الأكمل جمعا بين الأحاديث . وأما الجواب عن حديث عبد الله بن بديل فمن هذين الوجهين . .

التالي السابق


الخدمات العلمية