صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجوز الاعتكاف في جميع الأوقات ، والأفضل أن يعتكف في العشر الأخيرة من شهر رمضان لحديث أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما ، ويجوز أن يعتكف ما شاء من ساعة ويوم وشهر ، كما يجوز أن يتصدق بما شاء من قليل أو كثير ، وإن نذر اعتكافا مطلقا أجزأه ما يقع عليه الاسم . قال الشافعي رحمه الله تعالى : وأحب أن يعتكف يوما ، وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف ، فإن أبا حنيفة لا يجيز أقل من يوم ) .


( الشرح ) حديث أبي وعائشة سبق بيانه في أول الباب ، وأبو حنيفة اسمه : النعمان بن ثابت ، ولد سنة ثمانين من الهجرة ، وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة ، وفيها ولد الشافعي ، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : يصح الاعتكاف في جميع الأوقات من الليل والنهار ، وأوقات كراهة الصلاة ، وفي يوم العيدين والتشريق كما سبق دليله وبيانه ، وأفضله ما كان يصوم ، وأفضله شهر رمضان ، وأفضله العشر الأواخر منه قال الشافعي والأصحاب : والأفضل أن لا ينقص اعتكافه عن يوم ، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتكاف دون يوم . وليخرج من خلاف أبي حنيفة وغيره ممن يشترط الاعتكاف يوما فأكثر . وأما أقل الاعتكاف ففيه أربعة أوجه : ( أحدها ) وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يشترط لبث في المسجد ، وأنه يجوز الكثير منه والقليل حتى ساعة أو لحظة . قال إمام الحرمين وغيره : وعلى هذا لا يكفي ما في الطمأنينة في الركوع والسجود [ ص: 514 ] ونحوهما بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا وإقامة ، ( والوجه الثاني ) حكاه إمام الحرمين وآخرون أنه يكفي مجرد الحضور والمرور من غير لبث أصلا ، كما يكفي مجرد الحضور والمرور بعرفات في الوقوف . وبه قطع البندنيجي . قال إمام الحرمين : وعلى هذا الوجه يحصل الاعتكاف بالمرور حتى ولو دخل من باب وخرج من باب ونوى فقد حصل الاعتكاف ، وعلى هذا لو نذر اعتكافا مطلقا خرج عن نذره بمجرد المرور .

( والوجه الثالث ) حكاه الصيدلاني وإمام الحرمين وآخرون أنه لا يصح إلا يوم أو ما يدنو من يوم ( والرابع ) حكاه المتولي وغيره أنه يشترط أكثر من نصف النهار أو نصف الليل ، لأن مقتضى العادة أن تخالف العبادة وعادة الناس القعود في المساجد الساعة والساعات لانتظار الصلاة ، أو سماع الخطبة أو العلم أو لغير ذلك . ولا يسمى ذلك اعتكافا فشرط زيادة عليه لتتميز العبادة عن العادة ، قال المتولي : وهذا الخلاف في اشتراط أكثر النهار يشبه الخلاف في صوم التطوع ، فإنه يصح بنية قبل الزوال ، وفي صحته بنية بعده قولان مشهوران ( فإذا قلنا ) بالمذهب وهو الوجه الأول : إنه يصح الاعتكاف بشرط لبث وإن قل فلا فرق بين كثيره وقليله في الصحة ، وإنما شرط لبث يزيد على طمأنينة الصلاة كما سبق ، وكلما كثر كان أفضل ولا حد لأكثره بل يصح اعتكاف عمر الإنسان جميعه ويصح نذر اعتكاف العمر وسنفرده بمسألة مستقلة . ولو نذر اعتكافه ساعة صح نذره ولزمه اعتكاف ساعة ، ولو نذر اعتكافا مطلقا كفاه عن نذره اعتكاف لحظة ، والأفضل أن يعتكف يوما ليخرج من خلاف أبي حنيفة وموافقيه ، نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة ، وكلما دخل نوى الاعتكاف صح على المذهب ، وحكى الروياني فيه وجها ضعيفا وكأنه اعتكاف إلى الوجه الثاني والثالث . قال المتولي وغيره : ولو نوى اعتكاف مدة معلومة استحب له الوفاء بها بكمالها ، فإن خرج قبل إكمالها جاز ، لأن التطوع لا يلزم بالشروع ، وإن أطلق النية ولم يقدر شيئا دام اعتكافه ما دام في المسجد . [ ص: 515 ] فرع في مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف . قد ذكرنا أن الصحيح المشهور من مذهبنا أنه يصح كثيره وقليله ولو لحظة ، وهو مذهب داود والمشهور عن أحمد ورواية عن أبي حنيفة . وقال مالك وأبو حنيفة في المشهور عنه : أقله يوم بكماله بناء على أصلهما في اشتراط الصوم . دليلنا أن الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير ولم يحده الشرع بشيء يخصه فبقي على أصله . وأما الصوم فقد سبق الكلام فيه . وبينا أنه لم يثبت في اشتراط الصوم شيء صريح . .

التالي السابق


الخدمات العلمية