صفحة جزء
[ ص: 383 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - باب ما يجب في محظورات الإحرام من كفارة وغيرها ( إذا حلق المحرم رأسه فكفارته أن يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع ، لكل مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام ، وهو مخير بين الثلاثة لقوله تعالى - : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولحديث كعب بن عجرة . وإن حلق ثلاث شعرات كانت كفارته ما ذكرناه في حلق الرأس ، لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق ، فصار كمن حلق جميع رأسه ، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه وقال أبو القاسم الأنماطي : يلزمه فديتان لأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى أنه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق بشعر البدن ؟ والمذهب الأول ، لأنهما وإن اختلفا في النسك إلا أن الجميع جنس واحد فأجزأه لهما فدية واحدة ، كما لو غطى رأسه ولبس القميص والسراويل ، وإن حلق شعرة أو شعرتين ففيه ثلاثة أقوال : ( أحدها ) يجب لكل شعرة ثلث دم لأنه إذا وجب في ثلاث شعرات دم وجب في كل شعرة ثلثه ، ( والثاني ) يجب لكل شعرة درهم ، لأن إخراج ثلث دم يشق ، فعدل إلى قيمته ، وكانت قيمة الشاة ثلاثة دراهم فوجب ثلثه ، ( والثالث ) مد لأن الله - تعالى - عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام فيجب أن يكون هنا مثله ، وأقل ما يجب من الطعام مد فوجب ذلك . وإن قلم أظفاره أو ثلاثة أظافر وجب عليه ما يجب في الحلق ، وإن قلم ظفرا أو ظفرين وجب فيهما ما يجب في الشعرة والشعرتين لأنه في معناهما ) .


( الشرح ) قال أصحابنا : دم الحلق والقلم دم تخيير وتقدير ومعنى التخيير أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه . ومعنى التقدير أن الشرع جعل البدل المعدول إليه مقدرا بقدر لا يزيد عليه ولا ينقص منه ، فإذا حلق رأسه أو قلم أظفاره لزمه الفدية ، وهي ذبح شاة أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين كل مسكين نصف صاع ، أو صوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة للآية وحديث كعب بن عجرة . وإذا تصدق بالآصع وجب أن يعطي كل مسكين نصف صاع . هذا هو الصحيح وبه قطع [ ص: 384 ] المصنف والأصحاب : وحكى الرافعي وجها عن حكاية صاحب العدة أنه لا يقدر نصيب كل مسكين ، بل تجوز المفاضلة وهذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق . ولو حلق ثلاث شعرات فهو كحلق كل رأسه . فيتخير بين الأمور الثلاثة ، وهذا لا خلاف فيه عندنا ، وهكذا الحكم لو قلم ثلاثة أظفار سواء كانت من أظفار اليد أو الرجل أو منهما . هذا إذا أزالها دفعة واحدة في مكان ، فإن فرق زمانا أو مكانا فسيأتي حكمه قريبا إن شاء الله تعالى فيما إذا حلق أو قلم أو تطيب مرة بعد أخرى

( أما ) إذا حلق شعرة واحدة أو شعرتين ففيه أربعة أقوال ذكر المصنف الثلاثة الأول منها بدلائلها : ( أصحها ) وهو نصه في أكثر كتبه . يجب في شعرة مد وفي شعرتين مدان ، ( والثاني ) يجب في شعرة درهم ، وفي شعرتين درهمان ، ( والثالث ) في شعرة ثلث دم . وفي شعرتين ثلثاه ، ( والرابع ) في الشعرة الواحدة دم كامل ، حكاه إمام الحرمين عن حكاية صاحب التقريب . قال الإمام : وهذا القول ، وإن كان ينقدح توجيهه فلست أعده من المذهب ، وهذا الذي ذكره من أن الأصح أن في شعرة مدا ، وفي شعرتين مدين هو الصحيح عند الجمهور ممن صرح بتصحيحه صاحب الحاوي ، والقاضي أبو الطيب في تعليقه ، والقاضي حسين في تعليقه والعبدري والبغوي وصاحب الانتصار والرافعي وآخرون وهو نص الشافعي في مختصر المزني وفي الأم والإملاء .

قال صاحب الحاوي : هذا القول هو الصحيح الذي نص عليه في المختصر وفي أكثر كتبه ، قال : وعليه يعول أصحابنا ، والقول الذي يقول : يجب في الشعرة ثلث دم ، وفي الشعرتين ثلثان هو رواية أبي بكر الحميدي شيخ البخاري ، وصاحب الشافعي عن الشافعي ، شذ الجرجاني في التحرير فصححه والمشهور تصحيح المد كما سبق . واتفق أصحابنا على أن الظفر كالشعرة ، والظفرين كالشعرتين ، ففيه الأقوال الأربعة : ( الأصح ) في الظفر [ ص: 385 ] مد ، وفي الظفرين مدان ( أما ) إذا حلق شعر رأسه وبدنه فوجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما : ( الصحيح ) وبه قال جمهور أصحابنا المتقدمين : تجب فدية واحدة ، ( والثاني ) وهو قول الأنماطي فديتان ، قال أصحابنا وهو غلط .

( فرع ) قال أصحابنا : تجب الفدية بإزالة ثلاث شعرات متواليات ، سواء شعر الرأس والبدن ، وسواء النتف والإحراق والحلق والتقصير والإزالة بالنورة وغيرها ، فتقصير الشعر في وجوب الفدية كحلقه من أصله هذا هو المذهب ، وبه قطع الأصحاب في الطريقين إلا الماوردي فقال : لو قطع نصف الشعرة من رأسه أو جسده فوجهان : ( أحدهما ) يلزمه ما يلزمه في الشعرة الواحدة إذا قلعها من أصلها ، وفيه الأقوال الأربعة : ( الأصح ) مد لأن التقصير كالحلق من أصله في حصول التحلل ، فكذا في الفدية ، ( والوجه الثاني ) قال : وهو الأصح يجب بقسط ما أخذ من الشعرة ، فيكون نصف مد على أصح الأقوال الأربعة ، وحاصله نصف ما في الشعرة . والصحيح ما قدمناه عن الأصحاب والله أعلم . ولو قلم من ظفره دون المعتاد ولكن استوعب جميع أعلاه فهو كقطع بعض شعرة ، فيجب فيه ما يجب في الشعرة بكمالها على المذهب ، وفيه وجه الماوردي ولو أخذ من بعض جوانب الظفر ولم يستوعب جوانبه ، ( فإن قلنا ) : في الظفر الواحد دم أو درهم وجب هنا بقسطه . وإن قلنا : مد وجب هنا أيضا مد ، ولم يبعض ، هكذا ذكره المتولي وغيره ، ونقله المتولي عن الأصحاب مطلقا قال : قالوا : وإنما أوجبنا المد في بعضه لأنه لا يتبعض ، والفدية في الحج مبنية على التغليب .

( فرع ) هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف في الشعرة والشعرتين والظفر والظفرين تجري أيضا في ترك حصاة من الجمرات ، وفي ترك مبيت ليلة من ليالي منى ، وقد ذكرها المصنف في مواضعها ، قال [ ص: 386 ] إمام الحرمين : القول بدرهم في الشعرة لا أرى له وجها إلا تحسين الاعتقاد في عطاء فإنه قاله ، ولا يقوله إلا عن ثبت . هذا كلام الإمام . وقد ذكر القاضي حسين أن من أصحابنا من قال : إن هذا القول ليس مذهبا للشافعي وإنما هو مذهب عطاء قال القاضي : والأصح أنه قول للشافعي ( وأما ) احتجاج المصنف وغيره لهذا القول بأن الشاة كانت تساوي ثلاثة دراهم ، فإنما هو مجرد دعوى لا أصل لها ، فإن أرادوا أنها كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تساوي ثلاثة دراهم فهو مردود لأن النبي صلى الله عليه وسلم عادل بينها وبين عشرة دراهم في الزكاة ، فجعل الجبران شاتين أو عشرين درهما ، وإن أراد أنها كانت تساوي ثلاثة دراهم في زمن آخر لم يكن فيه حجة ولا يلزم اعتماد هذا في جميع الأزمان وأنكر صاحب التتمة على الأصحاب قولهم : إن الشاة كانت تساوي ثلاثة دراهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : هذا باطل لأوجه : ( أحدها ) أن الموضع الذي يصار فيه إلى التقويم في فدية الحج لا تخرج الدراهم ، بل يصرف الطعام ، وهو جزاء الصيد ، فكان ينبغي أن يصرف في الطعام .

( والثاني ) أن الاعتبار في القيمة بالوقت لا بما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في جزاء الصيد ، فإنه يقوم ما لا مثل له من النعم بقيمة الوقت ، فكان ينبغي أن يجب ثلث قيمة شاة .

( الثالث ) أن الشرع خير بين الشاة والطعام ، والطعام يحتمل التبعيض كما ذكرنا . قال صاحب التتمة : وأما توجيه القول بأن في الشعرة مدا بأن الشرع عدل الحيوان بالطعام في جزاء الصيد وغيره ، وأقل ما يجب في الشرع للفقير في الكفارات مد ، والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة ، فأوجبنا في مقابلتها أقل ما يوجب فدية في الشرع ، فهذا التوجيه فيه ضعف ، لأنه إذا لم يكن بد من الرجوع إلى الطعام فقد قابل الشرع الشاة [ ص: 387 ] في فدية الحلق بثلاثة آصع ، والآصع مما يحتمل التقسيط ، فكان ينبغي أن يجب في مقابلة الشعرة صاع ، قال : ومن قال يجب في الشعرة ثلث درهم فهو أقرب إلى القياس . قال : وعلى مقتضى هذا ينبغي أن يتخير بين ثلث شاة وبين أن يتصدق بصاع وبين أن يصوم يوما ، كما يتخير في ثلاث شعرات بين شاة وصوم ثلاثة أيام وإطعام ثلاثة آصع ، قال : ولكن هذا القول فيه إشكال من جهة المذهب ، لأنه ينتقض فيما لو جرح ظبية فنقص عشر قيمتها أن عليه عشر ثمن شاة وما أوجبه عشر شاة ، قال : فالقياس يلزمه صاع أو صوم يوم . هذا كلام صاحب التتمة ، وقال إمام الحرمين في توجيه إيجاب مد في الشعرة : هذا القول مشهور معتضد بآثار السلف ، وهو مرجوع إليه في مواضع من الشريعة فإن اليوم الواحد من صوم رمضان يقابل بمد كما سبق في بابه ، والله أعلم .

( فرع ) في مذاهب العلماء . قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا حلق ثلاث شعرات فصاعدا لزمته الفدية بكمالها . وقال أبو حنيفة : إن حلق ربع رأسه لزمه الدم ، وإن حلق دونه فلا شيء ، وفي رواية فعليه صدقة ، والصدقة عنده صاع من أي طعام شاء إلا البر ، فيكفيه منه نصف صاع . وقال أبو يوسف : إن حلق النصف وجب عليه الدم ، وقال مالك : إن حلق من رأسه ما أماط به عنه الأذى وجب الدم من غير اعتبار ثلاث شعرات . وعن أحمد روايتان : ( إحداهما ) كقولنا ، ( والثانية ) يجب بأربع شعرات . واحتج مالك بأن ثلاث شعرات لا يحصل بها إماطة الأذى . واحتج أبو حنيفة بأن الربع يقوم مقام الجميع كما يقول : رأيت زيدا وإنما رأى بعضه . واحتج أصحابنا بقوله - تعالى - : { ولا تحلقوا رءوسكم } أي شعر رءوسكم ، والشعر اسم جنس ، أقل ما يقع على ثلاث .

( والجواب ) عن دليل مالك أن إماطة الأذى ليست شرطا لوجوب الفدية ، ( والجواب ) عن قول أبي حنيفة أنها دعوى ليست مقبولة

( أما ) [ ص: 388 ] إذا حلق شعرة أو شعرتين فعليه الضمان ، هذا مذهبنا ، قال العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء ، وقال مجاهد : لا شيء في شعرة وشعرتين ، وبه قال داود ، وهو إحدى الروايتين عن عطاء ، وقال أحمد : في الشعرة والشعرتين يجب قبضة من طعام ، وذكرنا قوله في ثلاث شعرات ، وقال داود : للمحرم أن يأتي في إحرامه كل ما يجوز للحلال فعله ، إلا ما نص على تحريمه ، فله الاغتسال ودهن لحيته وجسده إذا لم يكن الدهن مطيبا ، وله قلم أظفاره ، وحلق عانته ونتف إبطه إلا أن يعزم على الأضحية فلا يأخذ من أظفاره ، ولا من شعره في العشر حتى يضحي قال : وللمرأة الاختضاب وللرجل المحرم شم الريحان وأكل ما فيه زعفران ، فإن فعل ما نهي عنه من لباس وطيب لم تجب الفدية عليه عند فعله ، لعدم الدليل على إيجاب ذلك ، هكذا حكاه عنه العبدري .

( أما ) إذا حلق المحرم شعر بدنه فقد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الفدية كحلق شعر الرأس ، وعن مالك روايتان : ( إحداهما ) عليه الفدية ، ( والثانية ) لا فدية ، وبه قال داود ، ولا تجب الفدية إلا بشعر رأسه ، دليلنا أنه محرم ترفه بأخذه شعرة من غير إلجاء ، فلزمه الفداء كشعر رأسه ، وفيه احتراز من شعر نبت في العين .

( فرع ) قد ذكرنا أن مذهبنا أن فدية الحلق على التخيير بين شاة وصوم ثلاثة أيام وإطعام ثلاثة آصع لستة مساكين ، كل مسكين نصف صاع . وسواء حلقه لأذى أو غيره وقال أبو حنيفة : إن حلقه لعذر فهو مخير كما قلنا وإن حلقه لغير عذر تعينت الفدية بالدم ، دليلنا أن كل كفارة لا يثبت فيها التخيير إذا كان سببها مباحا ثبت ، وإن كان حراما ككفارة اليمين والقتل وجزاء الصيد واحتجوا بقوله - تعالى - : { أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فأثبت التخيير عند العذر من الأذى ، فدل على أنه لا تخيير مع عدمه ( وأجاب ) أصحابنا بأن هذا تمسك بدليل [ ص: 389 ] الخطاب ، وهم لا يقولون به ، ونحن نقول به ، إلا أن السببية مقدمة عليه

( أما ) الأظفار فلها حكم الشعر في كل ما ذكرنا فيحرم على المحرم إزالتها وتجب الفدية بها وثلاثة أظفار كثلاث شعرات ، وظفر كشعرة وبه قال أحمد . وقال أبو حنيفة : إن قلم أظفار يد أو رجل بكمالها لزمه الفدية الكاملة ، وإن قلم من كل يد أو رجل أربعة أظفار فما دونها لزمته صدقة . وقال محمد بن الحسن : إن قلم خمسة أظفار لزمه الدم ، سواء من يد أو يدين . وقال مالك : حكم الأظفار حكم الشعر ، يتعلق الدم بما يميط الأذى وقال داود : يجوز للمحرم إزالة الأظفار كلها ولا فدية عليه ، وقد سبق بيان مذهبه قريبا ، دليلنا أنه كالشعر في الترفه ، فكان له حكمه والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية