صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع ، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف للوداع وهل يجب طواف الوداع أم لا فيه قولان ( أحدهما ) أنه يجب ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . } ( والثاني ) لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه ، فإن قلنا إنه واجب وجب بتركه الدم لقوله صلى الله عليه وسلم { من ترك نسكا فعليه دم } وإن قلنا : لا يجب لم يجب بتركه دم ، لأنه سنة ، فلا يجب بتركه دم كسائر سنن الحج ، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد [ بعد ] بطوافه عن الوداع ، لأنه لا توديع مع المقام ، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع ، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف ، لأنه لا يصير بذلك مقيما وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره ( فإن قلنا ) إنه واجب نظرت - فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة - استقر عليه الدم ، فإن عاد وطاف لم يسقط الدم ، لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول ، فإن ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم ، لأنه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض " فإن نفرت الحائض ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف ) .


( الشرح ) حديث ابن عباس الأول { لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت } رواه مسلم . وحديثه الآخر { أمر الناس } إلى آخره رواه البخاري ومسلم . وحديث " من ترك نسكا فعليه دم " سبق بيانه [ ص: 233 ] في هذا الباب مرات .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت { لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال : عقرى حلقى إنك لحابستنا ، ثم قال لها : أكنت أفضت يوم النحر ؟ قالت : نعم ، قال فانفري } رواه البخاري ومسلم والوداع بفتح الواو . وتنفر بكسر الفاء .

( أما الأحكام ) ففيها مسائل ( إحداها ) قال أصحابنا : من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع ، وهذا لا خلاف فيه ، سواء كان من أهلها أو غريبا ، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق ، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) أنه واجب ( والثاني ) سنة . وحكي طريق آخر أنه سنة قولا واحدا حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب . والمذهب أنه واجب . قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما : هذا نصه في الأم والقديم ، والاستحباب هو نصه في الإملاء ، فإن تركه أراق دما ( فإن قلنا ) هو واجب فالدم واجب ( وإن قلنا ) سنة فالدم سنة ، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب والله أعلم .

( الثانية ) إذا خرج بلا وداع وقلنا : يجب طواف الوداع عصى ولزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة ، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك ومتى لم يعد لزمه الدم ، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم ، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع الجمهور : لا يسقط .

( والثاني ) حكاه الخراسانيون وجهان ( أصحهما ) لا يسقط [ ص: 234 ] والثاني ) يسقط ( الثالثة ) ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه ، لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق ، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعو مما سنذكره إن شاء الله تعالى .

ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها ، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف . وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر ، فقد نص الشافعي أنه لا يلزمها ، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود . وللأصحاب طريقان ( المذهب ) الفرق كما نص عليه ، وبه قطع المصنف والجمهور ، لأنه مقصر بخلاف الحائض .

( والطريق الثاني ) حكاه الخراسانيون فيهما قولان ( أحدهما ) يلزمها ( والثاني ) لا يلزمهما ( فإن قلنا ) لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم ؟ فيه طريقان ( المذهب ) وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة ( والثاني ) حكاه جماعة من الخراسانيين فيه وجهان ( أصحهما ) . هذا ( والثاني ) الحرم وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها ، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع ، قال القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي : إذا رأت المرأة الدم فتركت طواف الوداع وانصرفت ، ثم اتصل الدم وجاوز خمسة عشر ، فهي مستحاضة فينظر هل هي مميزة أم معتادة أم مبتدأة ؟ وأي مرد ردت إليه إن كان تركها الطواف في حال حيضها فلا شيء عليها ، وإن كان في حال طهرها لزمها الدم . والله تعالى أعلم .

( الرابعة ) ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ويعقبه الخروج بلا مكث ، فإن مكث نظر إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه [ ص: 235 ] إعادة الطواف ، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان قطع الجمهور بأنه لا يحتاج . وذكر إمام الحرمين فيه وجهين . ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يعد الطواف ، نص عليه الشافعي في الإملاء واتفق عليه الأصحاب . والله أعلم .

( الخامسة ) حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط . وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي أنه يصح بلا طهارة ، وتجبر الطهارة بالدم ، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم ، وهو غلط ظاهر والله تعالى أعلم

( السادسة ) هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة فيه خلاف . قال إمام الحرمين والغزالي : هو من المناسك ، وليس على الحاج والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه . وقال البغوي والمتولي وغيرهما : ليس طواف الوداع من المناسك ، بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر ، سواء كان مكيا أو أفقيا . وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام . قال الرافعي : ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع . وكذا الأفقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه ، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج . هذا كلام الرافعي ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا } وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع . وسماه قبله قاضيا للمناسك وحقيقته أن يكون قضاها كلها .

[ ص: 236 ] فرع ) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر . قال : ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه ، والصحيح المشهور أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها ، سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة ، لعموم الأحاديث . وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره .

( فرع ) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه ، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه . واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه ؟ قال صاحب البيان : اختلف أصحابنا المتأخرون فيه ، فقال الشريف العثماني : يجزئه لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت ، وهذا قد أرادها . ومنهم من قال : لا يجزئه ، وهو ظاهر كلام الشافعي وظاهر الحديث ، لأن الشافعي قال : وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله . هذا كلام صاحب البيان ، وهذا الثاني هو الصحيح ، وهو مقتضى كلام الأصحاب . والله أعلم .

( فرع ) قال صاحب البيان : قال الشيخ أبو نصر في المعتمد : ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا . وقال سفيان الثوري : يلزم الدم . دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم { أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ، ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع } والله أعلم .

( فرع ) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم ثم أراد أن يعود إليه وقلنا : دخول الحرم يوجب الإحرام . قال الدارمي : يلزم الإحرام لأنه دخول جديد قال : ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام والله أعلم .

[ ص: 237 ] فرع ) إن قلنا طواف الوداع واجب فترك طوفة من السبع ورجع إلى بلده لم يحصل الوداع ، فيلزمه الدم بكماله . وقال الدارمي : يكون كتارك كل الطواف إلا في الدم ، فإنه على الأقوال إلا ثلاث فدم ، يعني أنه إذا ترك طوفة ففيها الأقوال ( أحدها ) يلزمه ثلث دم ( والثاني ) درهم ( وأصحها ) مد . وفي طوفتين الأقوال أيضا . وفي ثلاث طوفات دم كامل . هذا كلام الدارمي وهو ضعيف أو غلط ( والصواب ) أنه لم يحصل طواف الوداع ، والله أعلم .

( فرع ) إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة وأراد الحاج النفر بعد قضاء مناسكهم فالأولى للمرأة أن تقيم حتى تطهر فتطوف ، إلا أن يكون عليها ضرر ظاهر في هذا ، فإن أرادت النفر مع الناس قبل طواف الإفاضة جاز وتبقى محرمة حتى تعود إلى مكة فتطوف متى ما كان ، ولو طال سنين ، وقد سبق في مواضع من هذا الباب بيان هذا . وأما قول الماوردي في الحاوي : ليس لها أن تنفر حتى تطوف بعد أن تطهر فشاذ ضعيف جدا ، والظاهر أنه أراد أنه مكروه نفرها قبل طواف الإفاضة ، وقد سبق أنه يكره تأخيره ولا يكون مراده التحريم . ويصح أن يقال إن المكروه ليس بجائز ، ويفسر الجائز بمستوى الطرفين ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : إذا حاضت الحاجة قبل طواف الإفاضة . ونفر الحجاج بعد قضاء مناسكهم وقبل طهرها ، وأرادت أن تقيم إلى أن تطهر ، وكانت مستأجرة جملا ، لم يلزم الجمال انتظارها ، بل له النفر بجمله مع الناس ، ولها أن تركب في موضعها مثلها ، هذا مذهبنا لا خلاف فيه بين أصحابنا . وممن صرح به الماوردي والشيخ أبو نصر وصاحب البيان وآخرون ، وحكى أصحابنا عن مالك أنه يلزم أن ينتظرها أكثر مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام .

[ ص: 238 ] واستدل أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم { لا ضرر ولا ضرار } وهو حديث حسن من رواية أبي سعيد الخدري ، وبالقياس على ما لو مرضت فإنه لا يلزمه انتظارها بالإجماع والله أعلم .

قال القاضي عياض المالكي : موضع الخلاف بين الشافعي ومالك في هذه المسألة إذا كان الطريق آمنا ومعها محرم لها ، فإن لم يكن آمنا أو لم يكن محرم لم ينتظرها بالاتفاق ، لأنه لا يمكنه السير بها وحده . قال ولا يحبس لها الرفقة إلا أن يكون كاليوم واليومين ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية