صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن نذر المشي فركب وهو قادر على المشي ، لزمه دم ، لما روى ابن عباس عن عقبة بن عامر { أن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال : إن الله تعالى لغني عن نذر أختك ، لتركب ولتهد بدنة } ولأنه صار بالنذر نسكا واجبا ، فوجب بتركه الدم كالإحرام من الميقات ، فإن لم يقدر على المشي فله أن يركب ، لأنه إذا جاز أن يترك القيام الواجب في الصلاة للعجز جاز أن يترك المشي ، فإن ركب فهل يلزمه دم ؟ فيه قولان ( أحدهما ) لا يلزمه لأن حال العجز لم يدخل في النذر ( والثاني ) يلزمه لأن ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالتطيب واللباس ) .


( الشرح ) حديث ابن عباس عن عقبة رواه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس { أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا } هذا لفظ أبي داود ، وفي رواية عن عبد الله بن مالك الجيشاني عن عقبة بن عامر قال : { يا رسول الله إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، فلتركب ولتختمر ، ولتصم ثلاثة أيام } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن ، وفيما قاله نظر ، فإن في إسناده ما يمنع حسنه ، وسنذكر قريبا إن شاء الله تعالى قول البخاري فيه . وعن كريب عن ابن عباس قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أختي نذرت - يعني أن تحج [ ص: 493 ] ماشية - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها } رواه أبو داود . وعن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : { نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله وأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لتمش ولتركب } رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ في صحيحيهما ، ومعناه - والله أعلم - لتمش إذا قدرت وتركب إذا عجزت أو يشق عليها المشي ، وكذا ترجم له البيهقي فقال " باب المشي فيما قدر عليه ، والركوب فيما عجز عنه " . ثم ذكر هذا الحديث ، ورواه البيهقي من رواية ابن عباس { أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية ، وأنها لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لغني عن مشي أختك ، فلتركب ولتهد بدنة } هكذا في هذه الرواية بدنة ، وهو موافق لرواية المصنف في الكتاب . قال البيهقي : كذا في هذه الرواية وروي من طريق آخر " فتهدي هديا " وروي بغير ذكر الهدي ، ثم ذكر هذه الطرق كلها من رواية ابن عباس ، ثم رواه من رواية عقبة بغير ذكر الهدي كما سبق عن رواية البخاري ومسلم . ثم روى البيهقي الروايات السابقة عن سنن أبي داود والترمذي ، ثم روي بإسناد عن البخاري قال : لا يصح ذكر الهدي في حديث عقبة بن عامر ، ثم روى البيهقي بإسناد عن أبي هريرة قال { بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في جوف الليل في ركب إذ بصر بخيال قد نفرت منه إبلهم ، فأنزل رجلا فنظر فإذا هو بامرأة عريانة ناقضة شعرها ، فقال ما لك ؟ قالت : نذرت أن أحج البيت ماشية عريانة ناقضة شعري فأنا أتكمن بالنهار وأنتكب الطريق بالليل . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليها فمرها فتلبس ثيابها ، ولتهرق دما } قال البيهقي : هذا إسناد ضعيف ، قال : وروي من وجه آخر منقطع دون ذكر الهدي فيه . ثم روي بأسانيد عن الحسن البصري عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا نذر أحدكم [ ص: 494 ] أن يحج ماشيا فليهد وليركب } " وفي رواية { فليهد بدنة وليركب } قال البيهقي : ( ولا يصح سماع الحسن من عمران فهو مرسل ، قال وروي فيه عن علي موقوفا والله أعلم ) . أما أحكام الفصل ففيه مسائل : ( إحداها ) إذا نذر الحج ماشيا ، وقلنا بالأصح : إنه يلزمه المشي لم يجز له الركوب إن قدر على المشي ، لقوله صلى الله عليه وسلم { من نذر أن يطيع الله فليطعه } فإن عجز عن المشي جاز له الركوب ما دام عاجزا فمتى قدر لزمه المشي ، لحديث عقبة بن عامر السابق في هذا الفصل عن صحيح البخاري ومسلم . ولحديث أنس قال : { مر النبي صلى الله عليه وسلم بشيخ كبير يهادى بين ابنيه فقال : ما بال هذا ؟ فقالوا : نذر يا رسول الله أن يمشي . قال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه فأمره أن يركب } قال الترمذي : هذا حديث صحيح .

( والثانية ) إذا عجز عن المشي فحج راكبا وقع حجه عن النذر بلا خلاف ، وهل يلزمه جبر المشي الفائت بإراقة دم ؟ فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) لا دم كما لو نذر الصلاة قائما فعجز فإنه يصلي قاعدا ويجزئه ولا شيء عليه ( وأصحهما ) يلزمه الدم لما ذكره .

فعلى هذا فيما يلزمه طريقان . المذهب أنه شاة تجزئه في الأضحية كسائر الحيوانات ( والثاني ) فيه قولان ( هذا ) ( والثاني ) يلزمه بدنة للحديث السابق ، حكاه الخراسانيون والله أعلم .

( الثالثة ) إذا قدر على المشي فتركه وحج راكبا فقد أساء وارتكب حراما تفريعا على المذهب وهو وجوب المشي ، وهل يجزئه حجه عن نذره ؟ فيه طريقان ( أحدهما ) يجزئه قولا واحدا ، وبه قطع المصنف والعراقيون ( والثاني ) حكاه الخراسانيون فيه قولان ( القديم ) لا يجزئه ، بل عليه [ ص: 495 ] القضاء لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة ( والأصح ) الجديد أنه يجزئه ولا قضاء ، كما لو ترك الإحرام من الميقات وأحرم مما دونه ، أو ارتكب محظورا آخر فإنه يصح حجه ويجزئه بلا خلاف ، فعلى هذا في وجوب الدم عليه قولان ، وقيل وجهان ( أصحهما ) يجب وبه قطع المصنف وآخرون وهل هو بدنة أو شاة ؟ فيه الخلاف السابق ، الأصح شاة ، والله أعلم .

( فرع ) أما حقيقة العجز عن المشي فالظاهر أن المراد بها أن يناله به مشقة ظاهرة ، كما قاله الأصحاب في العجز عن القيام في الصلاة ، وفي العجز عن صوم رمضان بالمرض ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية