صفحة جزء
قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( فأما المكره فإن كان بغير حق لم يصح بيعه . لقوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فدل على أنه إذا لم يكن عن تراض لم يحل الأكل ، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إنما البيع عن تراض } فدل على أنه لا بيع عن غير تراض ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح ، ككلمة الكفر إذا أكره عليها المسلم ، وإن كان بحق صح ، لأنه قول حمل عليه بحق فصح ، ككلمة الإسلام إذا أكره عليها الحربي )


( الشرح ) حديث أبي سعيد هذا رواه البيهقي ، وهو حديث طويل وروى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لألقين الله من قبل أن أعطي [ ص: 186 ] أحدا من مال أحد شيئا بغير طيب نفسه ، إنما البيع عن تراض } وقوله : ( لأنه قول أكره عليه بغير حق ) احترز بالقول عن الفعل ، بأن أكرهت على الإرضاع أو أكره على الحدث ، فإنه يثبت حكمهما ، وكذا الإكراه على القتل على أصح القولين واحترز بقوله : ( بغير حق ) عن الإكراه بحق كإكراه الحربي على الإسلام وإكراه من عليه دين متمكن في البيع في أدائه .

( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : المكره على البيع إن كان إكراهه بغير حق لم يصح بيعه بلا خلاف ، لما ذكره المصنف ، فإن كان بحق صح ، وصورة الإكراه بحق أن يكون عليه دين ومعه متاع يمكنه بيعه فيه ، فيمتنع من بيعه بعد امتناع المالك من الوفاء والبيع ، قال القاضي أبو الطيب في كتاب التفليس ، والأصحاب : القاضي بالخيار إن شاء باع ماله بغير إذنه لوفاء الدين ، وإن شاء أكرهه على بيعه ، وعزره بالحبس وغيره حتى يبيعه ، والله أعلم .

( فرع ) قال أصحابنا : التصرفات القولية التي يكره عليها بغير حق باطلة سواء الردة والبيع والإجارة ، وسائر المعاملات والنكاح والخلع والطلاق والإعتاق وغيرها ( وأما ) ما أكره عليه بحق فهو صحيح ، قالوا : فتحصل من هذا أن المرتد والحربي إذا أكرها على الإسلام صح إسلامهما ، لأنه إكراه بحق ، وكذا المكره على البيع بحق يصح بيعه كما سبق ( وأما ) الذمي إذا أكره على الإسلام فهو إكراه بغير حق ، لأنا شرطنا في الذمة أن نقره على دينه ، فإذا أكره فهل يصح إسلامه ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) لا يصح وجها واحدا ، وهو مقتضى كلام المصنف هنا وآخرين .

( والطريق الثاني ) فيه وجهان حكاهما إمام الحرمين في كتاب الطلاق ، وفي كتاب الكفارات ، حكاهما الغزالي في هذين الموضعين لكنه [ ص: 187 ] حكاهما في الكفارات قولين ، وهو شاذ ، والمشهور أنهما وجهان ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب لا يصح . قال إمام الحرمين : المصير إلى صحته - مع أن إكراهه غير سائغ - وإن صح ما ذكرناه في إكراه الحربي ، لكونه إكراها بحق ، لم يمكن ذلك في الذمي ، لأن إكراهه ممنوع ، قال إمام الحرمين : إذا أكره الحربي على الإسلام فنطق بالشهادتين تحت السيف حكم بإسلامه اتفقت الطرق على هذا مع ما فيه من الغموض من جهة المعنى ، لأن كلمتي الشهادتين نازلتان في الإعراب عن الضمير منزلة الإقرار والظاهر ممن يقولهما تحت السيف أنه كاذب في إخباره ، والله تعالى أعلم . وأما المولى بعد مضي المدة فإذا طلق بإكراه القاضي له نفذ طلاقه ، لأنه إكراه بحق ليس بحقيقة إكراه فإنه لا يتعين الطلاق ، بل يلزمه بالفيئة أو الطلاق ، قال صاحب التتمة وغيره : هذا إذا أكرهه على طلقة واحدة ، فإن أكرهه على ثلاث طلقات فهو ظالم له ، فإذا تلفظ بها - ( فإن قلنا : ) لا ينعزل القاضي بالفسق - وقعت طلقة ولغت الزيادة ( وإن قلنا : ) ينعزل لم يقع شيء كما لو أكرهه غيره .

( فرع ) قال الغزالي في كتاب الطلاق : الإكراه يسقط أثر التصرفات عندنا إلا في خمسة مواضع ( أحدهما ) الإسلام فيصح إسلام الحربي المكره ولا يصح إكراه الذمي على الأصح ( الثاني ) الإرضاع فإذا أكرهت عليه ثبت حكمه ، لأنه منوط بوصول اللبن إلى الجوف لا بالقصد ( الثالث ) القتل فإذا أكره الرجل عليه لزمه القصاص على أصح القولين ( الرابع ) الزنا ، فإذا أكره الرجل عليه لزمه الحد في أحد الوجهين ومأخذ الوجهين التردد في تصور الإكراه ( الخامس ) إذا علق الطلاق على دخول الدار فأكره عليه وقع طلاقه في أحد القولين والأصح لا يقع وأنه لا يحد المكره على الزنا . [ ص: 188 ] قال : والاستثناء في التحقيق يرجع إلى الإسلام فحسب ، وإلى القتل على قول ( وأما ) ما عداه فسببه عدم تصور الإكراه ، وعدم اشتراط القصد ، هذا آخر كلام الغزالي ( وقوله ) إنه إنما يستثني هذه الخمسة يرد عليه مسائل ( منها ) إذا أكره على الأكل في الصوم ففي فطره قولان ، سبقا في موضعيهما ، الأصح : لا يفطر ( ومنها ) إذا أكره المصلي على الكلام فتكلم فقولان مشهوران ( أحدهما ) لا تبطل صلاته ( وأصحهما ) تبطل ، وبه قطع البغوي وغيره وسبق بيانه في موضعه ( ومنها ) إذا أكره المصلي حتى فعل أفعالا كثيرة بطلت صلاته قطعا ( ومنها ) لو أكره على التحول عن القبلة أو على ترك القيام في الفريضة مع القدرة فصلى قاعدا لزمه الإعادة لأنه عذر نادر .

( فرع ) المصادر من جهة السلطان وغيره ممن يظلمه بطلب مال وقهره على إحضاره إذا باع ماله ليدفعه إليه للضرورة والأذى الذي يناله ، هل يصح بيعه ؟ فيه وجهان مشهوران ، حكاهما إمام الحرمين والغزالي وآخرون وقد سبقا في باب الأطعمة في مسائل أكل المضطر مال الأجنبي ( أحدهما ) لا يصح كالمكره ( وأصحهما ) يصح وبه قطع الشيخ إبراهيم المروذي ، لأنه لا إكراه على نفس البيع ، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) ذكرنا أن المكره بغير حق لا يصح بيعه . هذا مذهبنا ، وبه قال مالك وأحمد والجمهور . وقال أبو حنيفة : يصح ويقف على إجازة المالك في حال اختياره واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } حديث حسن ، رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن فهذا مع ما ذكره المصنف هو المعتمد في دليل المسألة . [ ص: 189 ] وقد احتج بعض أصحابنا بأشياء لا يحتج بها ( منها ) ما رواه أبو داود بإسناده عن شيخ من بني تميم ، قال : خطبنا علي رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك } ورواه البيهقي عن شيخ من بني تميم عن { علي قال : سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك ، قال الله جل ثناؤه : { ولا تنسوا الفضل بينكم } يعز الأشرار ويستذل الأخيار وما يمنع المضطرون . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وعن بيع الثمرة قبل أن تطعم } وهذا الإسناد ضعيف ، لأن هذا الشيخ مجهول ، قال البيهقي : وقد روي من أوجه عن علي وابن عمر وكلها غير قوية ( ومنها ) ما رواه البيهقي بإسناد ضعيف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يركبن رجل بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا ، فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وتحت البحر نارا ، ولا يشترى مال امرئ مسلم في ضغطة } قال البخاري لا يصح هذا الحديث ، والله تعالى أعلم .

( فرع ) ذكر الخطابي في تفسير حديث علي رضي الله عنه أن بيع المضطر يكون على وجهين ( أحدهما ) ، أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فلا ينعقد العقد ( والثاني ) أن يضطر إلى البيع لدين أو مؤنة ترهقه ، فيبيع ما في يده ، فالوكس من أجل الضرورة ، فسبيله من حيث المروءة أن لا يترك حتى يبيع ماله ، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة ، حتى يكون له فيه بلاغ . فإن عقد البيع على هذا الوجه صح ولم يفسخ ، ولكن كرهه عامة أهل العلم . هذا لفظ الخطابي رضي الله عنه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية