صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( فأما الأعيان الأربعة ففيها قولان ( قال ) في الجديد : العلة فيها أنها مطعومة ، والدليل عليه ما روى معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الطعام بالطعام مثلا بمثل } والطعام اسم لكل ما يتطعم ، والدليل عليه قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } وأراد به الذبائح ، وقالت عائشة رضي الله عنها : { مكثنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر } " وقال لبيد :

لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها

وأراد به الفريسة والحكم إذا علق على اسم مشتق كان ذلك علة فيه ، كالقطع في السرقة ، والحد في الزنا ، ولأن الحب ما دام مطعوما يحرم فيه الربا ، فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوما لم يحرم فيه الربا ، فإذا انعقد الحب وصار مطعوما حرم فيه الربا ، فدل على أن العلة فيه كونه مطعوما ، فعلى هذا يحرم الربا في كل ما يطعم من الأقوات والإدام والحلاوات والفواكه والأدوية ، وفي الماء وجهان ( أحدهما ) يحرم فيه الربا ، لأنه مطعوم فهو كغيره ( والثاني ) لا يحرم فيه الربا ، لأنه مباح في الأصل غير متمول في العادة ، فلا يحرم فيه الربا . وفي الأدهان المطيبة وجهان ( أحدهما ) لا ربا فيها لأنها تعد للانتفاع برائحتها دون الأكل ( والثاني ) أنه يحرم فيها الربا وهو الصحيح ، لأنه مأكول وإنما لا يؤكل لأنه ينتفع به فيما هو أكثر من الأكل ، وفي البزر ودهن السمك وجهان ( أحدهما ) لا ربا فيه لأنه يعد للاستصباح ( والثاني ) أنه يحرم الربا فيه ، لأنه مأكول فأشبه الشيرج ( وقال ) في القديم : العلة فيها أنها مطعومة مكيلة أو مطعومة موزونة .

والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { الطعام بالطعام [ ص: 495 ] مثلا بمثل } " والمماثلة لا تكون إلا بالكيل أو الوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ، فعلى هذا لا يحرم الربا فيما لا يكال ولا يوزن من الأطعمة كالرمان والسفرجل والقثاء والبطيخ وما أشبهها )


( الشرح ) أما حديث معمر فرواه مسلم وسبق بيانه وحديث عائشة ( وقوله ) وأما الأعيان الأربعة هكذا هو في المهذب ( الأربعة ) ، وكان الأصل أن يقول ( الأربع ) ، ولكنه أراد بالأعيان الأجناس فأثبت الهاء ( وقولها ) الأسودان هو من باب التغليب ، وتسمية الشيئين باسم أحدهما كالأبوين والقمرين والعمرين ونظائره ، فإن الماء ليس بأسود ( قوله ) في بيت لبيد لمعفر هو - بفتح العين المهملة والفاء المشددة - وهو ولد الظبية إذا أرادت فطامه عن الرضاع فإنها تقطعه عن الرضاع أياما ثم تعود إلى إرضاعه أياما ثم تقطعه عن الرضاع أياما ، ثم ترضعه ، تفعل ذلك حتى لا يضره القطع جملة ، فإذا فعلت هذا قيل : عفرت الظبية ولدها ، ومعفر هو هكذا فسره صاحب البيان وفسره غيره بأنه الذي سحب في التراب وعفر به والقهد - بفتح القاف وإسكان الهاء - قيل : هو الأبيض ، وقيل : أبيض فيه كدورة وفيه حمرة أو صفرة ، وجمعه قهاد .

( وقوله : ) تنازع شلوه أي تحاذف أعضاءه ( وقوله : ) غبس - بغين معجمة ثم موحدة ساكنة ثم سين مهملة - أي ذئاب ، جمع ، أغبس ، وهو الذي لونه كلون الرماد ( وقوله : ) كواسب أي تكسب قوتها ( وقوله : ) ما يمن طعامها فيه تأويلان ( أصحهما ) وأشهرهما أنه لا منة عليها فيه ، بل تأخذه بالقهر والغلبة لا بالسؤال والمسكنة بخلاف السنور وشبهه ( والثاني ) معناه لا ينقص ولا ينقطع لقوله تعالى : { أجر غير ممنون } وقبل هذا البيت بيت آخر يظهر معنى هذا ، وهو :

خنساء ضيعت الفرير فلم يرم عرض الشقائق طوفها وبغامها

[ ص: 496 ] الخنساء بقرة وحشية والفرير - بفتح الفاء - ولدها ( وقوله ) يرم - بفتح الياء وكسر الراء معناه يفارق ، وعرض - بضم العين - وهو الناحية والشقائق جمع شقيقة ، وهي رملة فيها نبات ، وقيل : أرض غليظة بين رملين ( وقوله ) طوفها - بفتح الطاء ورفع الفاء - وهو ذهابها ومجيئها وهو فاعل يرم وبغامها - بضم الباء الموحدة ، وبالغين المعجمة ، وبرفع الميم - معطوف على ( طوفها ) والبغام الصوت ، واللام في قوله : لمعفر مكسورة ، وهي لام التعليل ، ومعنى البيتين أنها ضيعت ولدها فلا تزال تطوف في ناحية الرمال لطلبه ، ظانة أنه هناك ، ولا تعلم أن الذئاب تجاذبت أعضاءه وأكلته .

( وأما ) لبيد صاحب هذا فهو أبو عقيل - بفتح العين - لبيد بن ربيعة بن مالك العامري الصحابي ، الشاعر المشهور ، كان من فحول شعراء الجاهلية ، ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه ، وكان من المعمرين عاش مائة وأربعا وخمسين سنة ، وقيل غير ذلك ، توفي في خلافة عثمان ، وقيل في أول خلافة معاوية رضي الله عنه ( قوله : ) في الماء لأنه مباح في الأصل احتراز مما يتأثر من الزروع والثمار ، وما يلقى من الأطعمة رغبة عنه ، فإنه إذا أخذ إنسان شيئا من ذلك جرى فيه الربا ، لأنه ليس بمباح في الأصل ( وقوله : ) غير متمول في العادة احتراز من الصيد والبزر - بفتح الباء وكسرها - لغتان والقثاء - بكسر القاف وضمها - والكسر أفصح وأشهر .

أما الأحكام ففي علة تحريم الربا في الأجناس الأربعة قولان ( أصحهما ) وهو الجديد أنها الطعم فيحرم الربا في كل مطعوم سواء كان مما يكال أو يوزن أو غيرهما ، ولا يحرم في غير المطعوم ، فيجري الربا في السفرجل والبطيخ والرمان والبقول وغيرها من المطعوم ( والثاني ) وهو القديم لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن فعلى هذا لا ربا في [ ص: 497 ] السفرجل والرمان والبيض والجوز والبقول والخضراوات وغيرها مما لا يكال ولا يوزن ، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ، وهذا القول ضعيف جدا والتفريع إنما هو على الجديد ، فعلى هذا قال الشافعي والأصحاب المراد بالمطعوم ما يعد للطعم غالبا تقوتا وتأدما ، أو تفكها أو تداويا أو غيرها ، فيحرم الربا في جميع ذلك ، قال أصحابنا : وسواء ما أكل غالبا فيدخل فيه الحبوب والإدام والحلاوات والفواكه والبقول والتوابل والأدوية أو نادرا ، كالبلوط والطرثوث ، وهو نبت معروف ، وسواء ما أكل وحده أو مع غيره . وفي الزعفران وجهان حكاهما القاضي حسين والمتولي والرافعي أحدهما لا ربا فيه لأنه لا يقصد بالأكل .

( والثاني ) وهو الصحيح المنصوص ، وبه قطع الجمهور : يحرم فيه الربا . لأنه مأكول في الجملة ، وفي المصطكى والزنجبيل وجهان : ( الصحيح ) المشهور ، يحرم فيهما الربا .

( والثاني ) لا ربا فيهما حكاه الرافعي وقطع صاحب البيان بأنه لا ربا في المصطكى ، ويجري تحريم الربا في جميع الأدوية ، كالإهليلج والإبليلج والسقمونيا وغيرها ، نص عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ، إلا وجها حكاه القاضي حسين والمتولي وغيرهما أن ما يقتل كثيره ، ويستعمل قليله في الأدوية كالسقمونيا لا ربا فيه وهو شاذ ضعيف .

( وأما ) الماء ( إذا قلنا ) بالمذهب : أنه مملوك يصح بيعه ، فهل يحرم فيه الربا ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يحرم هكذا صححه إمام الحرمين والرافعي والجمهور ، وهو الصواب ، ولا يغتر بتصحيح صاحب الانتصار الإباحة ، فإنه شاذ ضعيف . فإن قيل : لو كان مطعوما لم يجز الاستنجاء به " قلنا " ثبتت الأحاديث في جواز الاستنجاء به فصار مستثنى . ( وأما ) الأدهان فأربعة أضرب ( أحدهما ) ما يعد للأكل كالزبد والسمن والزيت والشيرج ، ودهن الجوز واللوز والبطم ودهن الفجل والخردل [ ص: 498 ] والصنوبر وأشباهها ، فيحرم فيه الربا أيضا ، لأنه يؤكل للتداوي فأشبه الإهليلج .

( الثالث ) ما يراد للطيب كدهن البنفسج والورد والياسمين والزئبق والبان وسائر الأدهان المطيبة ، فيها وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما " أصحهما " عنده وعند الأصحاب أنها ربوية وذكر إمام الحرمين أن العراقيين نقلوا في المسألة قولين المنصوص أنها ربوية ، وفي قول مخرج ليست ربوية ، قال : وقال صاحب التقريب : دهن البنفسج ربوي ، وفي دهن الورد وجهان ، قال الإمام : ولا أفهم الفرق بينهما ( فإذا قلنا : ) إنها ربوية لم يجز بيع شيء من هذه الأدهان بعضه ببعض متفاضلا ، ولا بيع بعضها بالشيرج متفاضلا بلا خلاف ، هكذا صرح به الأصحاب ونقله الإمام عن العراقيين . ولم يذكر خلافه . قالوا : لأنها كلها شيرج اختلف رائحته بحسب ما جاورها من هذه الأدهان .

( والرابع ) ما يراد للاستصباح كدهن السمك وبزر الكتان ودهنه وفيه وجهان مشهوران في الطريقين ، ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) أنه ليس بربوي ( وأما ) قول إمام الحرمين والغزالي : أن العراقيين قطعوا بأنه لا ربا فيه فليس بمقبول ، بل الخلاف فيه مشهور في كتب العراقيين ، والله أعلم .

( فرع ) الطين الأرموي ربوي على الصحيح من الوجهين ، ونقله إمام الحرمين عن الغزالي قال : ولا خلاف فيه ، وممن ذكر الوجهين فيه القاضي حسين والمتولي والرافعي ( وأما ) الطين الذي يؤكل سفها ، ويقال له : الخراساني ففيه الوجهان ( الصحيح ) أنه ليس ربويا وبه قطع القاضي حسين وأبو الطيب والمتولي وصاحب البيان ونقله إمام الحرمين عن العراقيين [ ص: 499 ] قال : وتردد فيه الشيخ أبو محمد ومال إلى أنه ربوي ، وصححه الغزالي في الوسيط أنه ربوي والمذهب الأول .

( فرع ) في دهن الورد وجهان حكاهما الصيمري وصاحب البيان وغيرهما ( أصحهما ) ليس بربوي صححه الرافعي وهو كلام الجمهور وحكى الرافعي الوجهين في العود المطيب أيضا وقطع الأكثرون بأنه ليس ربويا

( فرع ) لا ربا في الحيوان عندنا فيجوز بيع شاة بشاتين ، وبعير ببعيرين ودجاجة بدجاجتين ، وكذا سائر الحيوان ، ولا خلاف في هذا عندنا إلا الوجه الذي قدمناه عن الأودني ، وهو شاذ ضعيف ، وإلا وجها حكاه إمام الحرمين ومتابعوه في السمك الصغار التي يمكن ابتلاعها في حياتها أنه يجري فيه الربا بناء على جواز أكلها حية ، وفيه وجهان سبقا في الأطعمة والصيد والذبائح ( إن قلنا : ) لا يجوز أكلها حية ليست ربوية ، فيجوز بيع سمكة بسمكات كسائر الحيوان وإلا فوجهان : ( أصحهما ) الجواز ، وهو مقتضى كلام الجمهور .

( والثاني ) لا ، وبه قطع المتولي تفريعا على جواز أكله .

( فرع ) قال ابن الصباغ والأصحاب : لا ربا في النوى ، لأنه ليس بطعام للآدمي ، وإن كان طعاما للبهائم فأشبه الحشيش .

( فرع ) لا ربا في الجلود والعظام إن كان يجوز أكلها ، وهذا لا خلاف فيه ، وممن صرح به الماوردي ، لأنها لا تؤكل في العادة .

( فرع ) قال المتولي وغيره : أنواع الحشيش التي تنبت في الصحاري وتؤكل في حال رطوبتها وأطراف قضبان العنب لا ربا فيها ، لأنها لا تقصد للأكل عادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية