صفحة جزء
قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا ابتاع شاة بشرط أن تحلب كل يوم خمسة أرطال . ففيه وجهان بناء على القولين فيمن باع شاة وشرط حملها ( أحدهما ) لا يصح ; لأنه شرط مجهول فلم يصح ( والثاني ) أنه يصح ; لأنه يعلم بالعادة فصح شرطه ، فعلى هذا إذا لم تحلب المشروط فهو بالخيار بين الإمساك والرد ) .


( الشرح ) هذه المسألة جزم الرافعي رحمه الله في باب البيوع المنهي عنها فيها بعدم صحة البيع ، وصرح في الروضة بأنه يبطل البيع قطعا ; لأن ذلك لا ينضبط فصار كما لو شرط في العبد أن يكتب كل يوم عشر ورقات ولم يتعرض الرافعي للمسألة في باب التصرية ، وابن الصباغ ذكر المسألة هنا وجزم فيها بالبطلان وكذلك صاحب التتمة قبل هذا الباب صرح وجزم بأن العقد فاسد ، وقال مع ذلك : إنه إذا شرط أنها لبون فإن كانت تدر لبنا - وإن قل - فلا خيار له ، وإن لم يكن لها لبن أصلا فله الخيار ، وكذلك قال غيره ، ونقلوا عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقول بالبطلان في هذه أيضا ولو شرط أنها غزيرة اللبن فتبين غزارته فله الرد ، قالهالروياني .

[ ص: 280 ] وكلتا المسألتين لا إشكال فيهما بخلاف مسألة الكتاب ، وصرح صاحب العدة حكاية الوجهين في مسألة الكتاب كما حكاهما المصنف رحمه الله حرفا بحرف ، ونقل بعض المصنفين مسألة الكتاب وحكاية الوجهين فيها عن التتمة ، ولم أرهما فيها بل الذي رأيت فيها البطلان والمصنف المذكور هو يعقوب بن أبي عصرون وذلك وهو منه ، ولعله جاء يكتب المهذب كتب التتمة . وقال الروياني في البحر : لو اشترى شاة على أنها تحلب كل يوم كذا وكذا ، قال أصحابنا : لا يصح قولا واحدا . قال : وقيل : فيه وجه أنه يصح ، وقال ابن أبي عصرون في الانتصار : إنه لا يصح البيع على أصح القولين ، فيحتمل أن يكون تابعا للمصنف في حكاية الخلاف في المسألة وأطلق القولين على الوجهين ويحتمل أن يكون عنده نقل خارج ، وممن حكى الخلاف أيضا في هذا الباب العمراني ، ويحتمل أن يكون تابعا للمصنف ، وكذلك حكاه فيما إذا شرط أن الشاة تضع لرأس الشهر مثلا ، والمشهور في المسألتين القطع بالفساد ولم أر الخلاف إلا في كلام المصنف والروياني وصاحب العدة أيضا . على أن المصنف رحمه الله وحده كاف في النقل ، فهو الثقة الأمين ، ولا يستبعد ذلك من وجهة المعنى ، فإن ذلك قد يعلم بالعادة فإن الشاة التي خبرها البائع وجربها دائما وهي تدر كل يوم مقدارا معلوما أو أكثر منه ، فهذا العقد الذي جرب وجوده منها في جميع الأيام يغلب على الظن دوامه ، أما وضع الحمل لرأس الشهر المنقول عن العمراني فذلك بعيد إلا على إرادة التقريب الكثير ، نعم ههنا كلامان : ( أحدهما ) أن الفرق ظاهر بين اشتراط قدر معلوم من اللبن ، واشتراط الحمل ، فإن اشتراط كونها حاملا نظيره اشتراط مقدار من اللبن ، ينبغي أن يكون كاشتراط مقدار أو وصف في الحمل ، وذلك لا يمكن تصحيحه ; لأنه لا يمكن العلم به . واعلم أن ههنا ثلاث مراتب : ( إحداها ) يشترط مقدار أو وصف في الحمل وهذا لا يصح قطعا ; لأنه لا سبيل إلى علمه ولا ظنه . ( الثانية ) اشتراط أصل الحمل واللبن ، وهذا يصح على الأصح ; لأنه معلوم موجود ، عليه أمارات ظاهرة . [ ص: 281 ] الثالثة ) اشتراط مقدار من اللبن ، فهذا قدر يقوم عليه أمارة لعادة متقدمة ونحوها ، ومن هذا الوجه أشبه الحمل ويفارقه من جهة أنه متعلق بأمر مستقبل يخرم كثيرا فلذلك جرى التردد فيه . ( الثاني ) أن بناء المصنفين الوجهين على القولين في اشتراط الحبل ، يقتضي أن يكون الصحيح صحة الشرط ههنا ; لأن الشرط صحة اشتراط الحبل ، لكن ابن أبي عصرون ممن وافق المصنف رحمه الله على حكاية الخلاف وصحح البطلان وأكثر الأصحاب قطعوا به والفرق ما قدمته وجعلته من رتبة منحطة غير رتبة أصل الحمل واللبن ، والله أعلم .

( التفريع ) إذا قلنا بالصحة في ذلك فأخلف فله الخيار بين الإمساك والرد كما قال المصنف ، كالمصراة ، بل أولى من حيث المعنى ; لأن هذا بشرط صريح ، وذاك بما يقوم مقامه من التغرير ، ومقتضى إلحاقها بالمصراة أنه إن حصل الخلف قبل الثلاث يجرى فيها الخلاف المذكور في المصراة في أنه يمتد الخيار إلى ثلاثة أيام ، أو يكون على الفور أو لا يثبت إلا عند انقضاء الثلاث على الأوجه السابقة فلو ظهر الخلف بعد الثلاث فيكون على الفور كالمصراة ، ولا يأتي ههنا قول أبي حامد : إنه لا يثبت الخيار بعد الثلاث ; لأن هناك مأخذه أن الخيار ثابت بالشرع ، وههنا ثابت بالشرط وأيضا الخيار في التصرية خيار عيب على قول كما تقدم ، وأما هنا فخيار خلف ليس إلا . نعم لو ظهر نقص اللبن ههنا بعد مدة فإن كان ذلك بطرآن حادث يقتضي ذلك فلا إشكال في أنه لا يثبت الخيار ; لأن ذلك غير لازم للبائع ; لأن سببه ما حدث في يد المشتري ، وإن لم يظهر حاله بحال نقص اللبن عليها فيحتمل أن يقال : إنه لا أثر للنقص أيضا ; لأنه لما دام اللبن وثبت على مقتضى الشرط حصل الوفاء بمقتضى الشرط . وعلم بذلك مزاج الحيوان ، والنقص بعد ذلك بمدة طويلة محمول على تغير طرأ ، وكذلك في المصراة لدوام اللبن مدة ، ثم حصل نقص لم يتبين بذلك وجود التصرية . بل ذلك محمول على نقص حادث ، وإنما يبقى ثبوت الخيار حينئذ إذا اعترف البائع أو قامت بينة أنه كان قد صراها وهذا الاحتمال متعين . [ ص: 282 ] وأما مقدار المدة فيحتمل أن يقال : إنه إذا حلبها ثلاثة أيام واللبن على حاله لم يتغير ، فتغيره بعد ذلك لا يؤثر . وتكون الثلاثة ضابطا لذلك لاعتبار الشارع إياها في هذا الباب . ويحتمل أن لا يضبط بمدة معينة بل بما يظهر من شاهد الحال ودلالته على أن النقص لأمر أصلي أو طارئ . والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية