صفحة جزء
[ ص: 33 ] في أحوال الشيخ أبي إسحاق مصنف الكتاب . اعلم أن أحواله رحمه الله كثيرة . لا يمكن أن تستقصى لخروجها عن أن تحصى ، لكن أشير إلى كلمات يسيرة من ذلك ، ليعلم بها ما سواها مما هنالك ، وأبالغ في اختصارها ، لعظمها ، وكثرة انتشارها . هو الإمام المحقق ، المتقن المدقق ، ذو الفنون من العلوم المتكاثرات ، والتصانيف النافعة المستجادات ، الزاهد العابد الورع ، المعرض عن الدنيا ، المقبل بقلبه على الآخرة ، الباذل نفسه في نصرة دين الله تعالى ، المجانب للهوى ، أحد العلماء الصالحين ، وعباد الله العارفين الجامعين بين العلم ، والعبادة ، والورع ، والزهادة ، المواظبين على ، وظائف الدين ، واتباع هدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الفيروزآبادي رحمه الله ، ورضي عنه ، منسوب إلى فيروز آباد من بلاد شيراز ولد سنة ثلاث وتسعين ، وثلاثمائة ، وتفقه بفارس على أبي الفرج بن البيضاوي ، وبالبصرة على الجوزي ، ثم دخل بغداد سنة خمس عشرة ، وأربعمائة ، وتفقه على شيخه الإمام الجليل الفاضل أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري ، ، وجماعات من مشايخه المعروفين ، وسمع الحديث على الإمام الفقيه الحافظ أبي بكر البرقاني ، وأبي علي بن شاذان ، وغيرهما من الأئمة المشهورين . ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له : ( شيخ ) فكان يفرح ، ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخا . قال رحمه الله : كنت أعيد كل درس مائة مرة ، وإذا كان في المسألة بيت شعر يستشهد به حفظت القصيدة كلها من أجله ، وكان عاملا بعلمه ، صابرا على خشونة العيش ، معظما للعلم ، مراعيا للعمل بدقائق الفقه ، والاحتياط . كان يوما يمشي ، ومعه بعض أصحابه ، فعرض في الطريق كلب فزجره صاحبه فنهاه الشيخ ، وقال : أما علمت أن [ ص: 34 ] الطريق بيني ، وبينه مشترك ؟ ودخل يوما مسجدا ليأكل طعاما على عادته فنسي فيه دينارا ، فذكره في الطريق فرجع فوجده ، ففكر ساعة ، وقال : ربما ، وقع هذا الدينار من غيري ، فتركه ، ولم يمسه ، قال الإمام الحافظ أبو سعد السمعاني : كان الشيخ أبو إسحاق إمام الشافعية ، والمدرس ببغداد في النظامية ، شيخ الدهر ، وإمام العصر ، رحل إليه الناس من الأمصار ، وقصدوه من كل الجوانب ، والأقطار ، وكان يجري مجرى أبي العباس بن سريج قال : وكان زاهدا ، ورعا متواضعا ، متخلقا ظريفا كريما سخيا جوادا طلق الوجه دائم البشر ، حسن المجالسة ، مليح المحاورة ، وكان يحكي الحكايات الحسنة ، والأشعار المستبدعة المليحة ، وكان يحفظ منها كثيرا ، وكان يضرب به المثل في الفصاحة . وقال السمعاني أيضا : تفرد الإمام أبو إسحاق بالعلم الوافر ، كالبحر الزاخر ، مع السيرة الجميلة ، والطريقة المرضية ، جاءته الدنيا صاغرة فأباها ، واطرحها ، وقلاها . قال : وكان عامة المدرسين بالعراق . والجبال تلاميذه ، وأصحابه ، صنف في الأصول ، والفروع ، والخلاف ، والجدل ، والمذهب كتبا ، أضحت للدين أنجما ، وشهبا ، وكان يكثر مباسطة أصحابه بما سنح له من الرجز ، وكان يكرمهم ، ويطعمهم . حكى السمعاني أنه كان يشتري طعاما كثيرا ، ويدخل بعض المساجد ، ويأكل مع أصحابه ، وما فضل قال لهم : اتركوه لمن يرغب فيه . وكان رحمه الله طارحا للتكلف . قال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري : حملت فتوى إلى الشيخ أبي إسحاق فرأيته في الطريق ، فمضى إلى دكان خباز أو بقال ، وأخذ قلمه ، ودواته ، وكتب جوابه ، ومسح القلم في ثوبه ، وكان رحمه الله ذا نصيب وافر من مراقبة الله تعالى ، والإخلاص له ، وإرادة إظهار الحق ، ونصح الخلق ، قال أبو الوفاء بن عقيل : شاهدت شيخنا أبا إسحاق لا يخرج شيئا إلى فقير إلا أحضر النية ، ولا يتكلم في مسألة إلا قدم الاستعانة بالله عز وجل وأخلص القصد في نصرة الحق ، ولا صنف مسألة إلا بعد أن صلى ركعات . فلا جرم شاع اسمه ، وانتشرت تصانيفه شرقا ، وغربا لبركة إخلاصه . قلت : وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في أول كتابه الملخص في الجدل ، جملا من الآداب للمناظرة ، وإخلاص النية ، وتقديم ذلك بين يدي شروعه فيها ، وكان فيما نعتقده متصفا بكل ذلك . أنشد السمعاني ، وغيره للرئيس أبي الخطاب علي بن عبد الرحمن بن هارون بن الجراح : [ ص: 35 ]

سقيا لمن صنف التنبيه مختصرا ألفاظه الغر واستقصى معانيه     إن الإمام أبا إسحاق صنفه
لله والدين لا للكبر والتيه     رأى علوما عن الأفهام شاردة
فحازها ابن علي كلها فيه     بقيت للشرع إبراهيم منتصرا
تذود عنه أعاديه وتحميه

قوله : منتصرا بكسر الصاد ، وألفاظه منصوب به . ، ولأبي الخطاب أيضا :

أضحت بفضل أبي إسحاق ناطقة     صحائف شهدت بالعلم والورع
بها المعاني كسلك العقد كامنة     واللفظ كالدر سهل جد ممتنع
رأى العلوم وكانت قبل شاردة     فحازها الألمعي الندب في اللمع
لازال علمك ممدودا سرادقه     على الشريعة منصورا على البدع

. ولأبي الحسن القيرواني :

إن شئت شرع رسول الله مجتهدا     تفتي وتعلم حقا كل ما شرعا
فاقصد هديت أبا إسحاق مغتنما     ، وادرس تصانيفه ثم احفظ اللمعا

. ونقل عنه رحمه الله قال : بدأت في تصنيف المهذب سنة خمس ، وخمسين وأربعمائة ، وفرغت يوم الأحد آخر رجب سنة تسع وستين ، وأربعمائة . توفي رحمه الله ببغداد يوم الأحد ، وقيل : ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، وقيل : الأولى سنة ست ، وسبعين وأربعمائة ، ودفن من الغد ، واجتمع في الصلاة عليه خلق عظيم ، وقيل : أول من صلى عليه أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله ، ورئي في النوم ، وعليه ثياب بيض فقيل له : ما هذا ؟ فقال : عز العلم . فهذه أحرف يسيرة من بعض صفاته ، أشرت بها إلى ما سواها من ، جميل حالاته ، وقد بسطتها في ( تهذيب الأسماء واللغات ) ، وفي كتاب ( طبقات الفقهاء ) فرحمه الله ، ورضي عنه وأرضاه ، وجمع بيني ، وبينه ، وسائر أصحابنا في دار كرامته . وقد رأيت أن أقدم في أول الكتاب فصولا ، تكون لمحصله ، وغيره من طالبي جميع العلوم ، وغيرها من وجوه الخير ذخرا ، وأصولا ، وأحرص مع الإيضاح على اختصارها ، وحذف الأدلة ، والشواهد في معظمها ، خوفا من انتشارها . مستعينا بالله متوكلا عليه ، مفوضا أمري إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية