صفحة جزء
( 2279 ) فصل : فأما المجاوز للميقات ، ممن لا يريد النسك ، فعلى قسمين ; أحدهما ، لا يريد دخول الحرم ، بل يريد حاجة فيما سواه ، فهذا لا يلزمه الإحرام بغير خلاف ، ولا شيء عليه في ترك الإحرام ، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بدرا مرتين ، وكانوا يسافرون للجهاد وغيره ، فيمرون بذي الحليفة ، فلا يحرمون ، ولا يرون بذلك بأسا . ثم متى بدا لهذا الإحرام ، وتجدد له العزم عليه ، أحرم من موضعه ، ولا شيء عليه . هذا ظاهر كلام الخرقي . وبه يقول مالك ، والثوري ، والشافعي ، وصاحبا أبي حنيفة .

وحكى ابن المنذر ، عن أحمد ، في الرجل يخرج لحاجة ، وهو لا يريد الحج ، فجاوز ذا الحليفة ، ثم أراد الحج ، يرجع إلى ذي الحليفة ، فيحرم . وبه قال إسحاق . ولأنه أحرم من دون الميقات ، فلزمه الدم ، كالذي يريد دخول الحرم . والأول أصح . وكلام أحمد يحمل على من يجاوز الميقات ممن يجب عليه الإحرام ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { فهن لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة } . ولأنه حصل دون الميقات على وجه مباح . فكان له الإحرام منه ، كأهل ذلك المكان .

ولأن هذا القول يفضي إلى أن من كان منزله دون الميقات ، إذا خرج إلى الميقات ، ثم عاد إلى منزله ، وأراد الإحرام ، لزمه الخروج إلى الميقات ، ولا قائل به . وهو مخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ومن كان منزله دون الميقات ، فمهله من أهله ) .

القسم الثاني ، من يريد دخول الحرم ، إما إلى مكة أو غيرها ، فهم على ثلاثة أضرب ; أحدها ، من يدخلها لقتال مباح ، أو من خوف ، أو لحاجة متكررة ، كالحشاش ، والحطاب ، وناقل الميرة والفيح ، ومن كانت له ضيعة يتكرر دخوله وخروجه إليها ، فهؤلاء لا إحرام عليهم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح مكة حلالا وعلى رأسه [ ص: 117 ] المغفر ، وكذلك أصحابه ، ولم نعلم أحدا منهم أحرم يومئذ ، ولو أوجبنا الإحرام على كل من يتكرر دخوله ، أفضى إلى أن يكون جميع زمانه محرما ، فسقط للحرج . وبهذا قال الشافعي .

وقال أبو حنيفة : لا يجوز لأحد دخول الحرم بغير إحرام ، إلا من كان دون الميقات ; لأنه يجاوز الميقات مريدا للحرم ، فلم يجز بغير إحرام كغيره . ولنا ، ما ذكرناه ، وقد روى الترمذي ، أن النبي صلى الله عليه وسلم { دخل يوم الفتح مكة وعلى رأسه عمامة سوداء } . وقال : هذا حديث حسن صحيح . ومتى أراد هذا النسك بعد مجاوزة الميقات أحرم من موضعه كالقسم الذي قبله ، وفيه من الخلاف ما فيه . النوع الثاني : من لا يكلف الحج كالعبد ، والصبي ، والكافر إذا أسلم بعد مجاوزة الميقات ، أو عتق العبد ، وبلغ الصبي ، وأرادوا الإحرام ، فإنهم يحرمون من موضعهم ، ولا دم عليهم . وبهذا قال عطاء ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وهو قول أصحاب الرأي في الكافر يسلم ، والصبي يبلغ ، وقالوا في العبد : عليه دم وقال الشافعي في جميعهم : على كل واحد منهم دم .

وعن أحمد ، في الكافر يسلم ، كقوله . ويتخرج في الصبي والعبد كذلك ، قياسا على الكافر يسلم ; لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام وأحرموا دونه ، فلزمهم الدم ، كالمسلم البالغ العاقل .

ولنا ، أنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام منه ، فأشبهوا المكي ، ومن قريته دون الميقات إذا أحرم منها ، وفارق من يجب عليه الإحرام إذا تركه ; لأنه ترك الواجب عليه . النوع الثالث : المكلف الذي يدخل لغير قتال ولا حاجة متكررة ، فلا يجوز له تجاوز الميقات غير محرم . وبه قال أبو حنيفة ، وبعض أصحاب الشافعي .

وقال بعضهم : لا يجب الإحرام عليه . وعن أحمد ما يدل على ذلك . وقد روي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام . ولأنه أحد الحرمين ، فلم يلزم الإحرام لدخوله ، كحرم المدينة ، ولأن الوجوب من الشرع ، ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل ، فبقي على الأصل . ووجه الأولى أنه لو نذر دخولها ، لزمه الإحرام ، ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول ، كسائر البلدان . إذا ثبت هذا فمتى أراد هذا الإحرام بعد تجاوز الميقات ، رجع فأحرم منه ، فإن أحرم من دونه ، فعليه دم ، كالمريد للنسك .

التالي السابق


الخدمات العلمية