صفحة جزء
باب المصراة ، وغير ذلك . التصرية : جمع اللبن في الضرع . يقال : صرى الشاة ، وصرى اللبن في ضرع الشاة ، بالتشديد والتخفيف . ويقال : صرى الماء في الحوض ، وصرى الطعام في فيه ، وصرى الماء في ظهره .

إذا ترك الجماع . وأنشد أبو عبيدة

: رأت غلاما قد صرى في فقرته ماء الشباب عنفوان شرته

وماء صرى ، وصر ، إذا طال استنقاعه . قال البخاري : أصل التصرية حبس الماء ، يقال : صريت الماء .

ويقال للمصراة : المحفلة . وهو من الجمع أيضا ، ومنه سميت مجامع الناس محافل والتصرية حرام إذا أراد بذلك التدليس على المشتري لقول النبي صلى الله عليه وسلم { : لا تصروا } . وقوله { : من غشنا فليس منا } وروى ابن ماجه ، في سننه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { بيع المحفلات خلابة ، ولا تحل الخلابة لمسلم . } رواه ابن عبد البر ، { : ولا يحل خلابة لمسلم . }

( 2984 ) مسألة ; قال : ( وإذا اشترى مصراة وهو لا يعلم ، فهو بالخيار بين أن يقبلها أو يردها وصاعا من تمر ) . الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة ( 2985 ) ، الأول ، أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام ، لم يعلم تصريتها ، ثم علم . فله الخيار في الرد والإمساك .

روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى [ ص: 104 ] والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ، وعامة أهل العلم ، وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له ; لأن ذلك ليس بعيب ; بدليل أنه لو لم تكن مصراة ، فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها ، والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار ، كما لو علفها فانتفخ بطنها ، فظن المشتري أنها حامل .

ولنا ، ما روى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها وصاعا من تمر } متفق عليه ، وروى ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ، إن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا } . رواه أبو داود . ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه ، فوجب به الرد ، كما لو كانت شمطاء ، فسود شعرها .

وقياسهم يبطل بتسويد الشعر ، فإن بياضه ليس بعيب كالكبر ، وإذا دلسه ثبت له الخيار ، وأما انتفاخ البطن ، فقد يكون من الأكل والشرب ، فلا معنى لحمله على الحمل ، وعلى أن هذا القياس يخالف النص ، واتباع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى . إذا تقرر هذا ، فإنما يثبت الخيار بشرط أن لا يكون المشتري عالما بالتصرية ، فإن كان عالما ، لم يثبت له الخيار .

وقال أصحاب الشافعي يثبت له الخيار في وجه ; للخبر ، ولأن انقطاع اللبن لم يوجد ، وقد يبقى على حاله ، فلم يجعل ذلك رضى ، كما لو تزوجت عنينا ، ثم طلبت الفسخ . ولنا ، أنه اشتراها عالما بالتدليس ، فلم يكن له خيار ، كما لو اشترى من سود شعرها عالما بذلك ، ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد ، كما لو اشترى معيبا يعلم عيبه ، وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد ، لا يعلق عليه حكم ، والأصل الذي قاسوا عليه ممنوع . ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة ، واستمر على كثرته ، لم يكن له الرد .

وقال أصحاب الشافعي له الرد ، في أحد الوجهين ; للخبر ، ولأن التدليس كان موجودا حال العقد ، فأثبت الرد ، كما لو نقص اللبن . ولنا ، أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص اللبن ، ولم يوجد ، فامتنع الرد ، ولأن العيب لم يوجد ، ولم تختلف صفة المبيع عن حالة العقد ، فلم يثبت التدليس ، ولأن الخيار ثبت لدفع الضرر ، ولم يوجد ضرر .

( 2986 ) الفصل الثاني ، أنه إذا رد ، لزمه رد ، بدل اللبن . وهذا قول كل من جوز ردها ، وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر ، كما في الحديث الصحيح الذي أوردناه ، وهذا قول الليث وإسحاق والشافعي وأبي عبيد وأبي ثور وذهب مالك ، وبعض الشافعية ، إلى أن الواجب صاع من غالب قوت البلد ، لأن في بعض الحديث : " ورد معها صاعا من طعام " .

وفي بعضها : " ورد معها مثلي أو ميلي لبنها قمحا " فجمع بين الأحاديث ، وجعل تنصيصه على التمر ; لأنه غالب قوت البلد في المدينة ، ونص على القمح ; لأنه غالب قوت بلد آخر . وقال أبو يوسف : يرد قيمة اللبن ; لأنه ضمان متلف ، فكان مقدرا بقيمته ، كسائر المتلفات ، وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر ، أو نصف صاع من بر بناء على قولهم في الفطرة والكفارة . ولنا ، الحديث الصحيح الذي أوردناه ، وهو المعتمد عليه في هذه المسألة .

وقد نص فيه على التمر فقال { : إن شاء ردها وصاعا من تمر } . وفي لفظ للبخاري { : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر } وفي لفظ لمسلم ، رواه ابن سيرين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { : ورد صاعا [ ص: 105 ] من تمر لا سمراء } وفي لفظ له : { طعاما لا سمراء } يعني لا يرد قمحا .

والمراد بالطعام هاهنا التمر ; لأنه مطلق في أحد الحديثين ، مقيد في الآخر ، في قضية واحدة والمطلق فيما هذا سبيله يحمل على المقيد . وحديث ابن عمر مطرح الظاهر بالاتفاق ; إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها قمحا ، ثم قد شك فيه الراوي ، وخالفته الأحاديث الصحاح ، فلا يعول عليه . وقياس أبي يوسف مخالف للنص ، فلا يلتفت إليه ولا يبعد أن يقدر الشرع ، بدل هذا المتلف ، قطعا للخصومة ، ودفعا للتنازع ، كما قدر بدل الآدمي ودية أطرافه ، ولا يمكن حمل الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن ، فلذلك أوجبه ، لوجوه ثلاثة : أحدها ، أن القيمة هي الأثمان لا التمر . الثاني ، أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم جميعا صاعا من تمر ، مع اختلاف لبنها .

الثالث ، أن لفظه للعموم ، فيتناول كل مصراة ، ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعا ، وإن أمكن أن يكون كذلك ، فيتعين إيجاب الصاع ; لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها ; فلا يجوز أن يعدل عنها ، وإذ قد ثبت هذا ، فإنه يجب أن يكون الصاع من التمر جيدا ، غير معيب ; لأنه واجب بإطلاق الشارع ، فينصرف إلى ما ذكرناه ، كالصاع الواجب في الفطرة . ولا يحب أن يكون من الأجود ، بل يجوز أن يكن من أدني ما يقع عليه اسم الجيد .

ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر مثل قيمة الشاة ، أو أقل ، أو أكثر ، نص عليه أحمد . وليس هذا جمعا بين البدل والمبدل ; لأن التمر بدل اللبن ، قدره الشرع به ، كما قدر في يدي العبد قيمته ، وفي يديه ورجليه قيمته مرتين ، مع بقاء العبد على ملك سيده . وإن عدم التمر في موضعه ، فعليه قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد ; لأنه بمثابة عين أتلفها ، فيجب عليه قيمتها .

( 2987 ) فصل : وإن علم بالتصرية قبل حلبها ، مثل أن أقر به البائع ، أو شهد به من تقبل شهادته ، فله ردها ، ولا شيء معها ; لأن التمر إنما وجب بدلا للبن المحتلب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من اشترى غنما مصراة فاحتلبها ، فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ، ففي حلبتها صاع من تمر } . ولم يأخذ لها لبنا هاهنا ، فلم يلزمه رد شيء معها . وهذا قول مالك .

قال ابن عبد البر : هذا ما لا خلاف فيه . وأما لو احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها ، رد لبنها ، ولا يلزمه أيضا بشيء ; لأن المبيع إذا كان موجودا فرده ، لم يلزمه بدله . فإن أبى البائع قبوله ، وطلب التمر ، لم يكن له ذلك ، إذا كان بحاله لم يتغير . وقيل : لا يلزمه قبوله ; لظاهر الخبر ، ولأنه قد نقص بالحلب ، وكونه في الضرع أحفظ له . ولنا ، أنه قدر على رد المبدل ، فلم يلزمه البدل ، كسائر المبدلات مع أبدالها . والحديث المراد به رد التمر حالة عدم اللبن ; لقوله { : ففي حلبتها صاع من تمر } . ولما ذكرنا من المعنى .

وقولهم إن الضرع أحفظ له . لا يصح ; لأنه لا يمكن إبقاؤه في الضرع على الدوام ، وبقاؤه يضر بالحيوان . وإن كان اللبن قد تغير ، ففيه وجهان ; أحدهما ، لا يلزمه قبوله . وهذا قول مالك ; للخبر ، ولأنه قد نقص بالحموضة ، أشبه ما لو أتلفه . والثاني ، يلزمه قبوله لأن النقص حصل بإسلام المبيع ، وبتغرير البائع ، وتسليطه على حلبه ، فلم يمنع الرد ، كلبن غير المصراة .

التالي السابق


الخدمات العلمية