صفحة جزء
( 4580 ) فصل : وإذا لم توجد قافة ، أو أشكل الأمر عليها ، أو تعارضت أقوالها ، أو وجد من لا يوثق بقوله ، لم يرجح أحدهما بذكر علامة في جسده ; لأن ذلك لا يرجح به في سائر الدعاوى ، سوى الالتقاط في المال واللقيط ، ويضيع نسبه . هذا قول أبي بكر . وقد أومأ أحمد ، رحمه الله ، في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد ، إلى أن الابن يخير أيهما أحب . وهو قول أبي عبد الله بن حامد ، قال : يترك حتى يبلغ ، فينتسب إلى من أحب منهما . وهو قول الشافعي الجديد ، وقال في القديم : حتى يميز ; لقول عمر : وال أيهما شئت . ولأن الإنسان يميل بطبعه إلى قريبه دون غيره ، ولأنه مجهول نسبه ، أقر به من هو من أهل الإقرار ، وصدقه المقر له ، فيثبت نسبه ، كما لو انفرد . وقال أصحاب الرأي : يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى ; لأن كل واحد منهما لو انفرد سمعت دعواه ، فإذا اجتمعا ، وأمكن العمل بهما ، وجب ، كما لو أقر له بمال . ولنا أن دعواهما تعارضتا ، ولا حجة لواحد منهما ، فلم تثبت ، كما لو ادعيا رقه . وقولهم : يميل بطبعه إلى [ ص: 50 ] قرابته . قلنا : إنما يميل إلى قرابته بعد معرفته بأنها قرابته ، فالمعرفة بذلك سبب الميل ، ولا سبب قبله ، ولو ثبت أنه يميل إلى قرابته ، لكنه قد يميل إلى من أحسن إليه ، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ، وبغض من أساء إليها ، وقد يميل إليه لإساءة الآخر إليه ، وقد يميل إلى أحسنهما خلقا أو أعظمهما قدرا أو جاها أو مالا ، فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب . وقولهم : إنه صدق المقر بنسبه . قلنا : لا يحل له تصديقه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه . وهذا لا يعلم أنه أبوه ، فلا يأمن أن يكون ملعونا بتصديقه ، ويفارق ما إذا انفرد ، فإن المنفرد يثبت النسب بقوله من غير تصديق . وأما قول عمر : وال من شئت . فلم يثبت ، ولو ثبت لم يكن فيه حجة ; فإنه إنما أمره بالمولاة ، لا بالانتساب . وعلى قول من جعل له الانتساب إلى أحدهما ، لو انتسب إلى أحدهما ، ثم عاد وانتسب إلى الآخر ، ونفى نسبه من الأول ، أو لم ينتسب إلى واحد ، لم يقبل منه ; لأنه قد ثبت نسبه ، فلا يقبل رجوعه عنه ، كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره ، ويفارق الصبي الذي يخير بين أبويه ، فيختار أحدهما ، ثم يرد الآخر ، إذا اختاره ، فإنه لا حكم لقول الصبي ، وإنما تبع اختياره وشهوته ، فأشبه ما لو اشتهى طعاما في يوم ، ثم اشتهى غيره في يوم آخر . وإن قامت للآخر بنسبه بينة ، عمل بها ، وبطل انتسابه ; لأنها تبطل قول القافة ، الذي هو مقدم على الانتساب ، فلأن تبطل الانتساب أولى . وإن وجدت قافة بعد انتسابه ، فألحقته بغير من انتسب إليه ، بطل انتسابه أيضا ; لأنه أقوى ، فبطل به الانتساب كالبينة مع قول القافة .

التالي السابق


الخدمات العلمية