صفحة جزء
( 6187 ) الفصل الثالث : أن العود هو الوطء ، فمتى وطئ لزمته الكفارة ، ولا تجب قبل ذلك ، إلا أنها شرط لحل الوطء ، فيؤمر بها من أراده ليستحله بها ، كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حل المرأة . وحكي نحو ذلك عن الحسن ، والزهري . وهو قول أبي حنيفة . إلا أنه لا يوجب الكفارة على من وطئ ، وهي عنده في حق من وطئ كمن لم يطأ . وقال القاضي وأصحابه : العود العزم على الوطء . إلا أنهم لم يوجبوا الكفارة على العازم على الوطء ، إذا مات أحدهما أو طلق قبل الوطء ، إلا أبا الخطاب ، فإنه قال : إذا مات بعد العزم ، أو طلق ، فعليه الكفارة .

وهذا قول مالك ، وأبي عبيد . وقد أنكر أحمد هذا ، فقال : مالك يقول : إذا أجمع لزمته الكفارة . فكيف يكون هذا ، إذا طلقها بعدما يجمع كان عليه كفارة ، إلا أن يكون يذهب إلى قول طاوس : إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق . ولم يعجب أحمد قول طاوس . وقال أحمد ، في قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا } . قال : العود الغشيان ، إذا أراد أن يغشى كفر . واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } . فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس ، وما حرم قبل الكفارة ، لا يجوز كونه متقدما عليها ، ولأنه قصد بالظهار تحريمها ، فالعزم على [ ص: 14 ] وطئها عود فيما قصده ، ولأن الظهار تحريم ، فإذا أراد استباحتها ، فقد رجع في ذلك التحريم ، فكان عائدا .

وقال الشافعي : العود إمساكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه ; لأن ظهاره منها يقتضي إبانتها ، فإمساكها عود فيما قال . وقال داود : العود ، تكرار الظهار مرة ثانية ; لأن العود في الشيء إعادته . ولنا أن العود فعل ضد قوله ، ومنه العائد في هبته ، هو الراجع في الموهوب ، والعائد في عدته ، التارك للوفاء بما وعد ، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي عنه . قال الله تعالى : { ثم يعودون لما نهوا عنه } . فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ، ومانع لها منه ، فالعود فعله .

وقولهم : إن العود يتقدم التكفير ، والوطء يتأخر عنه . قلنا : المراد بقوله : ثم يعودون . أي يريدون العود ، كقول الله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } . أي أردتم ذلك . وقوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } . فإن قيل : فهذا تأويل ، ثم هو رجوع إلى إيجاب الكفارة بالعزم المجرد . قلنا : دليل التأويل ، ما ذكرنا . وأما الأمر بالكفارة عند العزم فإنما أمر بها شرطا للحل ، كالأمر بالطهارة لمن أراد صلاة النافلة ، والأمر بالنية لمن أراد الصيام .

فأما الإمساك فليس بعود ; لأنه ليس بعود في الظهار المؤقت ، فكذلك في المطلق ، ولأن العود فعل ضد ما قاله ، والإمساك ليس بضد له ، وقولهم : إن الظهار يقتضي إبانتها . لا يصح ، وإنما يقتضي تحريمها واجتنابها ، ولذلك صح توقيته ، ولأنه قال : { ثم يعودون لما قالوا } . وثم للتراخي ، والإمساك غير متراخ . وأما قول داود فلا يصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أوسا وسلمة بن صخر بالكفارة من غير إعادة اللفظ ، ولأن العود إنما هو في مقوله دون قوله ، كالعود في الهبة والعدة ، والعود لما نهي عنه ، ويدل على إبطال هذه الأقوال كلها أن الظهار يمين مكفرة ، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها ، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان ، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان ، ولأنها يمين تقتضي ترك الوطء ، فلا تجب كفارتها إلا به ، كالإيلاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية