صفحة جزء
( 6271 ) فصل : والقذف على ثلاثة أضرب : واجب ، وهو أن يرى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه ، فإنه يلزمه اعتزالها حتى تنقضي عدتها ، فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا ، وأمكنه نفيه عنه ، لزمه قذفها ، ونفي [ ص: 59 ] ولدها ; لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني ، فإذا لم ينفه لحقه الولد ، وورثه ، وورث أقاربه ، وورثوا منه ، ونظر إلى بناته وأخواته ، وليس ذلك بجائز ، فيجب نفيه لإزالة ذلك . ولو أقرت بالزنا ، ووقع في قلبه صدقها ، فهو كما لو رآها .

الثاني - أن يراها تزني ، أو يثبت عنده زناها ، وليس ثم ولد يلحقه نسبه ، أو ثم ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا ، أو يخبره بزناها ثقة يصدقه ، أو يشيع في الناس أن فلانا يفجر بفلانة ، ويشاهده عندها ، أو داخلا إليها أو خارجا من عندها ، أو يغلب على ظنه فجورها ، فهذا له قذفها ; لأنه روي عن عبد الله ، { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا ، فتكلم جلدتموه ، أو قتل قتلتموه ، أو سكت سكت على غيظ . فذكر أنه يتكلم أو يسكت ، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم . } ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على هلال والعجلاني قذفهما حين رأيا .

وإن سكت جاز ، وهو أحسن ; لأنه يمكنه فراقها بطلاقها ، ويكون فيه سترها وستر نفسه ، وليس ثم ولد يحتاج إلى نفيه . الحال الثالث ، محرم ، وهو ما عدا ذلك ، من قذف أزواجه والأجانب ; فإنه من الكبائر ، قال الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم ، فليست من الله في شيء ، ولن يدخلها الله جنته ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه ، احتجب الله منه ، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين } . رواه أبو داود .

قوله : " وهو ينظر إليه " . يعني يراه منه ، فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم ، حرم على الرجل جحد ولده . ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره ; لأنه غير مأمون على الكذب عليها ، ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها ; لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا ، أو هاربا ، أو لحاجة ، أو لغرض فاسد ، فلم يمكنه ، ولا لاستفاضة ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم ; لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك عنها . وفيه وجه آخر ، أنه يجوز ; لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة . ولا بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما ، ولا لشبهه بغير والديه ; لما روى أبو هريرة قال : { جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي جاءت بولد أسود . يعرض بنفيه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : فما ألوانها ؟ . قال : حمر . قال : هل فيها من أورق ؟ . قال : إن فيها أورق . قال : فأنى أتاها ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق . قال : فهذا عسى أن يكون نزعه عرق } . قال : " ولم يرخص له في الانتفاء منه . متفق عليه .

ولأن الناس كلهم من آدم وحواء ، وألوانهم وخلقهم مختلفة ، فلولا مخالفتهم شبه والديهم ، لكانوا على خلقة واحدة ، ولأن دلالة الشبه ضعيفة ، ودلالة ولادته على الفراش قوية ، فلا يجوز ترك القوي لمعارضة الضعيف ، ولذلك لما تنازع سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة ، في ابن وليدة زمعة ، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه شبها بينا بعتبة ، ألحق الولد بالفراش ، وترك الشبه . وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي .

وذكر القاضي ، وأبو الخطاب ، أن ظاهر كلام أحمد ، جواز نفيه . وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي ; لقول النبي [ ص: 60 ] صلى الله عليه وسلم في حديث اللعان : { إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فهو للذي رميت به . فأتت به على النعت المكروه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا الأيمان ، لكان لي ولها شأن } . فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه ، والصحيح الأول . وهذا الحديث إنما يدل على نفيه عنه ، مع ما تقدم من لعانه ونفيه إياه عن نفسه ، فجعل الشبه مرجحا لقوله ، ودليلا على تصديقه ، وما تقدم من الأحاديث يدل على عدم استقلال الشبه بالنفي ، ولأن هذا كان في موضع زال الفراش ، وانقطع نسب الولد عن صاحبه ، فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق نسب الولد بصاحبه .

وإن كان يعزل عن امرأته ، فأتت بولد ، لم يبح له نفيه ; لما ذكرنا من حديث جابر وأبي سعيد . وعن أبي سعيد ، أنه قال : يا رسول الله ، إنا نصيب من النساء ، ونحب الأثمان ، أفنعزل عنهن ؟ قال : { إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها } . ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق . وأما إن كان لا يطؤها إلا دون الفرج ، أو في الدبر ، فأتت بولد ، فذكر أصحابنا أنه ليس له نفيه ; لأنه لا يأمن أن يسبق الماء إلى الفرج فيعلق به . وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي . وهو بعيد ; لأنه من أحكام الوطء في الفرج ، فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام ، ودلالة عدم الوطء في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة مخالفة الولد لون والديه .

فأما إن وجد أحد هذه الوجوه التي ذكرنا مع الزنا ، ويحتمل كونه منه أو من الزاني ، مثل إن زنت في طهر أصابها فيه ، أو زنت فلم يعتزلها ، ولكنه كان يعزل عنها ، أو كان لا يطؤها إلا دون الفرج ، لو كان الولد شبيها بالزاني دونه ، لزمه نفيه ; لأن هذا مع الزنا يوجب نسبته إلى الزاني ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بولد امرأة هلال لشريك ابن سحماء ، بشبهه له ، مع لعان هلال لها ، وقذفه إياها . وأما إذا أتت زوجته بولد ، فشك فيه من غير معرفته لزناها ، فلا يحل له قذفها ، ولا لعانها ; لما تقدم من حديث الفزاري . وكذلك إن عرف زناها ، ولم يعلم أن الولد من الزاني ، ولا وجد دليل عليه ، فليس له نفيه ; لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر .

التالي السابق


الخدمات العلمية