صفحة جزء
( 8247 ) مسألة ، قال ( وإذا شهد عنده من لا يعرفه ، سأل عنه ، فإن عدله اثنان ، قبل شهادته ) وجملته أنه إذا شهد عند الحاكم شاهدان ، فإن عرفهما عدلين ، حكم بشهادتهما ، وإن عرفهما فاسقين ، لم يقبل قولهما ، وإن لم يعرفهما ، سأل عنهما ; لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق .

وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد . وعن أحمد رواية أخرى : يحكم بشهادتهما إذا عرف إسلامهما ، بظاهر الحال ، إلا أن يقول الخصم : هما فاسقان . وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء ; لأن الظاهر من المسلمين العدالة ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه : المسلمون عدول بعضهم على بعض وروي { ، أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشهد برؤية الهلال ، فقال له النبي : صلى الله عليه وسلم أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ . فقال : نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ . قال : نعم . فصام ، وأمر الناس بالصيام } .

ولأن العدالة أمر خفي ، سببها الخوف من الله - تعالى ، ودليل ذلك الإسلام ، فإذا وجد ، فليكتف به ، ما لم يقم على خلافه دليل . وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية الأولى ، وفي سائر الحقوق كالثانية ; لأن الحدود والقصاص مما يحتاط لها وتندرئ بالشبهات ، بخلاف غيرها ولنا ، أن العدالة شرط ، فوجب العلم بها كالإسلام ، أو كما لو طعن الخصم فيهما .

فأما الأعرابي المسلم ، فإنه كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله - تعالى - عليهم ، فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيثارا لدين الإسلام ، وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت عدالته .

وأما قول عمر ، فالمراد به أن الظاهر العدالة ، ولا يمنع ذلك وجوب البحث ، ومعرفة حقيقة العدالة ، فقد روي [ ص: 109 ] عنه ، أنه أتي بشاهدين ، فقال لهما عمر : لست أعرفكما ، ولا يضركما إن لم أعرفكما ، جيئا بمن يعرفكما . فأتيا برجل ، فقال له عمر : تعرفهما ؟ فقال : نعم . فقال عمر : صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس ؟ قال : لا . قال : عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم ؟ قال : لا . قال : كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال لا . قال : يا ابن أخي ، لست تعرفهما ، جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفي بدونه .

إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط ; الإسلام والبلوغ ، والعقل ، والعدالة ، وليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة ، فيحتاج إلى البحث عنها ; لقول الله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } . ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه ، أو نخبر عنه ، فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم ، وكناهم ، ونسبهم ، ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ، ويكتب صنائعهم ، ومعايشهم ، وموضع مساكنهم ، وصلاتهم ; ليسأل عن جيرانهم ، وأهل سوقهم ومسجدهم ، ومحلتهم ، ونحلتهم ، فيكتب : أسود أو أبيض ، أو أنزع أو أغم ، أوأشهل أو أكحل ، أقنى الأنف أو أفطس ، أو رقيق الشفتين أو غليظهما ، طويل أو قصير أو ربعة ، ونحو هذا ، ليتميز ، ولا يقع اسم على اسم ، ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه ، وقدر الحق ، ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله ، لكل واحد رقعة .

وإنما ذكرنا المشهود له ، لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع الشهادة ، أو شركة ، وذكرنا اسم المشهود عليه ; لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة ، وذكرنا قدر الحق ; لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير ، فتطيب نفس المزكى به إذا كان يسيرا ، ولا تطيب إذا كان كثيرا . وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع ; لئلا يتواطئوا . وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه ، من جوار الشاهد ، وأهل الخبرة به ، وإن شاء أطلق ، ولم يعين المسئول ، ويكون السؤال سرا ; لئلا يكون فيه هتك المسئول عنه ، وربما يخاف المسئول من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده ، أو يستحيي .

وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين له ; لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة ، وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ، ذوي عقول وافرة ، أبرياء من الشحناء والبغض ; لئلا يطعنوا في الشهود ، أو يسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه ، فيضيع حق المشهود له ، ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية ، يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ، ويكونون أمناء ثقات ; لأن هذا موضع أمانة .

فإذا رجع أصحاب مسائله ، فأخبر اثنان بالعدالة ، قبل شهادته ، وإن أخبرا بالجرح ، رد شهادته ، وإن أخبر أحدهما بالعدالة ، والآخر بالجرح ، بعث آخرين ، فإن عادا فأخبرا بالتعديل ، تمت بينة التعديل ، وسقط الجرح ; لأن بينته لم تتم ، وإن أخبرا بالجرح ، ثبت ورد الشهادة ، وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل ، تمت البينتان ، ويقدم الجرح ، ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين ، ويقبل قول أصحاب المسائل .

وقيل : لا يقبل إلا شهادة المسئولين ، ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا [ ص: 110 ] بالتزكية والجرح عنده ، على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ، ولا تقبل من صاحب المسألة ; لأن ذلك شهادة على شهادة ، مع حضور شهود الأصل .

ووجه القول الأول ، أن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة ، لا شهادة على شهادة ، فيكتفي بمن يشهد بها ، كسائر شهادات الاستفاضة ; ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية ، وليس للحاكم إجباره عليها ، فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ، ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل ، لتعذرت التزكية ; لأنه قد يتفق أن لا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم ، فلا يقبل قوله ، فيفوت التعديل والجرح .

التالي السابق


الخدمات العلمية