صفحة جزء
( 8272 ) مسألة ; قال : ( ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه ، والمجلس ، والخطاب ) وجملته ، أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء ، من المجلس ، والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه ، والإنصات إليهما ، والاستماع منهما . وهذا قول شريح وأبي حنيفة ، والشافعي . ولا أعلم فيه مخالفا .

[ ص: 120 ] وقد روى عمر بن شبة ، في كتاب " قضاة البصرة " بإسناده عن أم سلمة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من بلي بالقضاء بين المسلمين ، فليعدل بينهم في لفظه ، وإشارته ، ومقعده ، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر . وفي رواية : فليسو بينهم ; في النظر ، والمجلس ، والإشارة }

وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي : سو بين الناس في مجلسك وعدلك ، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ، ولا يطمع شريف في حيفك . وقال سعيد ، ثنا هشيم ، ثنا سيار ثنا الشعبي ، قال : كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب بدار في شيء ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتياه في منزله ، فقال له عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، في بيته يؤتى الحكم فوسع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : هاهنا يا أمير المؤمنين . فقال له عمر : جرت في أول القضاء ، ولكن أجلس مع خصمي . فجلسا بين يديه ، فادعى أبي وأنكر عمر ، فقال زيد لأبي ، أعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كنت لأسألها لأحد غيره . فحلف عمر ، ثم أقسم : لا يدرك زيد باب القضاء ، حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء

ورواه عمر بن شبة ، وفيه : فلما أتيا باب زيد ، خرج فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إلي لأتيتك . قال : في بيته يؤتى الحكم . فلما دخلا عليه ، قال : هاهنا يا أمير المؤمنين . قال : بل أجلس مع خصمي . فادعى أبي وأنكر عمر ، ولم تكن لأبي ، بينة ، فقال زيد : أعف أمير المؤمنين من اليمين .

فقال عمر : تالله إن زلت ظالما ، السلام عليك يا أمير المؤمنين . هاهنا يا أمير المؤمنين . أعف أمير المؤمنين . إن كان لي حق استحققته بيميني ، وإلا تركته ، والله الذي لا إله إلا هو ، إن النخل لنخلي ، وما لأبي فيها حق . ثم أقسم عمر : لا يصيب زيد وجه القضاء حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء . فلما خرجا وهب النخل لأبي ، فقيل له : يا أمير ، المؤمنين ، فهلا كان هذا قبل أن تحلف ؟ قال : خفت أن أترك اليمين ، فتصير سنة ، فلا يحلف الناس على حقوقهم .

وقال إبراهيم : جاء رجل إلى شريح ، وعنده السري بن وقاص ، فقال الرجل لشريح : أعني على هذا الجالس عندك . فقال شريح للسري : قم فاجلس مع خصمك . قال : إني أسمعك من مكاني . قال : لا قم فاجلس مع خصمك . فأبى أن يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه . وفي رواية قال إن مجلسك يريبه ، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر .

ولما تحاكم علي رضي الله عنه واليهودي إلى شريح ، قال علي إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولأن الحاكم إذا ميز أحد الخصمين على الآخر حصر ، وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته ، فأدى ذلك إلى ظلمة .

وإن أذن أحد الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس ، جاز ; لأن الحق له ، ولا ينكسر قلبه إذا كان هو الذي رفعه . والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي ; لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود . وقال علي رضي الله عنه : لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك . ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما ، والإقبال عليهما ، والنظر في خصومتهما .

وإن كان الخصمان ذميين ، سوى بينهما أيضا ; لاستوائهما في دينهما ، وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا ، جاز رفع المسلم عليه ، لما روى إبراهيم التيمي ، قال : وجد [ ص: 121 ] علي ، كرم الله وجهه ، درعه مع يهودي ، فقال : درعي ، سقطت وقت كذا وكذا . فقال اليهودي : درعي ، وفي يدي ، بيني وبينك قاضي المسلمين ، فارتفعا إلى شريح ، فلما رآه شريح قام من مجلسه ، وأجلسه في موضعه ، وجلس مع اليهودي بين يديه فقال علي : إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { لا تساووهم في المجالس } ذكره : أبو نعيم ، في الحلية . ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، إما أن يضيفهما معا أو يدعهما .

وقد روي عن علي ، كرم الله وجهه ، أنه نزل به رجل ، فقال له : إنك خصم ؟ قال : نعم .

قال : تحل عنا ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه } . ولأن ذلك يوهم الخصم ميل الحاكم إلى من أضافه . ولا يلقن أحدهما حجته ، ولا ما فيه ضرر على خصمه ، مثل أن يريد أحدهما الإقرار ، فيلقنه الإنكار ، أو اليمين فيلقنه النكول ، أو النكول ، فيجزئه على اليمين ، أو يحس من الشاهد بالتوقف ، فيجسره على الشهادة ، أو يكون مقدما على الشهادة ، فيوقفه عنها ، أو يقول لأحدهما وحده : تكلم .

ونحو هذا مما فيه إضرار بخصمه ; لأن عليه العدل بينهما . فإن قيل : فقد لقن النبي صلى الله عليه وسلم السارق ، فقال : " ما أخالك سرقت " . وقال عمر لزياد : أرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلنا : لا يرد هذا الإلزام هاهنا ; فإن هذا في حقوق الله وحدوده ، ولا خصم للمقر ، ولا للمشهود عليه ، فليس في تلقينه حيف على أحد الخصمين ، ولا ترك للعدل في أحد الجانبين ، والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين . ولا ينبغي أن يعنت الشاهد ، ولا يداخله في كلامه ، ويعنفه في ألفاظه .

التالي السابق


الخدمات العلمية