صفحة جزء
( 8277 ) فصل : إذا حرر المدعي دعواه ، فللحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك ، لأن شاهد الحال يدل عليه ، لأن إحضاره الدعوى إنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه ، فقد أغنى ذلك عن سؤاله ، فيقول لخصمه : ما تقول فيما يدعيه ؟ فإن أقر لزمه ، وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له ; لأن الحكم عليه حق له ، فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة ، هكذا ذكر أصحابنا .

ويحتمل أن يجوز له الحكم عليه قبل مسألة المدعي ; لأن الحال تدل على إرادته ذلك ، فاكتفي بها ، كما اكتفي بها في مسألة المدعى عليه الجواب ، ولأن كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك ، [ ص: 124 ] فيترك مطالبته به لجهله ، فيضيع حقه ، فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته .

وعلى القول الأول ، إن سأله الخصم فقال : احكم لي . حكم عليه ، والحكم أن يقول : قد ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك له . أو يقول : اخرج له منه . فمتى قال له أحد هذه الثلاثة ، كان حكما بالحق ، وإن أنكر فقال : لا حق لك قبلي . فهذا موضع البينة ، قال الحاكم : ألك بينة ؟ لما روي { أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ; حضرمي وكندي ، فقال الحضرمي : يا رسول الله ، إن هذا غلبني على أرض لي . فقال الكندي : هي أرضي ، وفي يدي ، وليس له فيها حق . فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال : لا . قال : فلك يمينه } . وهو حديث حسن صحيح

. وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة ، فالحاكم مخير بين أن يقول : ألك بينة ؟ وبين أن يسكت ، فإذا قال له : ألك بينة ؟ فذكر أن له بينة حاضرة ، لم يقل له الحاكم : أحضرها . لأن ذلك حق له ، فله أن يفعل ما يرى .

وإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك ; لأنه حق له فلا يسأله ، ولا يتصرف فيه من غير إذنه ، فإذا سأله المدعي سؤالها ، قال : من كانت عنده شهادة فليذكرها ، إن شاء ؟ ولا يقول لهما : اشهدا . لأنه أمر . وكان شريح يقول للشاهدين : ما أنا دعوتكما ، ولا أنهاكما أن ترجعا ، وما يقضي على هذا المسلم غيركما ، وإني بكما أقضي اليوم ، وبكما أتقي يوم القيامة .

وإن رأى الحاكم عليهما ما يوجب رد شهادتهما ، ردها . كما روي عن شريح ، أنه شهد عنده شاهد ، وعليه قباء مخروط الكمين ، فقال له شريح : أتحسن أن تتوضأ ؟ قال : نعم . قال : فاحسر عن ذراعيك . فذهب يحسر عنهما ، فلم يستطع ، فقال له شريح : قم ، فلا شهادة لك .

وإن أديا الشهادة على غير وجهها ، مثل أن يقولا : بلغنا أن عليه ألفا ، أو سمعنا ذلك . ردت شهادتهما . وشهد رجل عند شريح ، فقال : أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات . فقال شريح : أتشهد أنه قتله ؟ قال : أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات . قال أتشهد أنه قتله قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات . قال : قم ، لا شهادة لك .

وإن كانت شهادة صحيحة ، وعرف الحاكم عدالتهم ، قال للمشهود عليه : قد شهدا عليك ، فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما ، فبينه عندي .

فإن سأل الإنظار ، أنظره اليومين والثلاثة . فإن لم يجرح حكم عليه ; لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه . وإن ارتاب بشهادتهم ، فرقهم ، فسأل كل واحد عن شهادته وصفتها ، فيقول : كنت أول من شهد ، أو كتبت ، أو لم تكتب ، وفي أي مكان شهدت ، وفي أي شهر ، وأي يوم ؟ وهل كنت وحدك ، أو معك غيرك ؟ فإن اختلفوا ، سقطت شهادتهم ، وإن اتفقوا بحث عن عدالتهم .

ويقال : أول من فعل هذا دنيال . ويقال : فعله سليمان ، وهو صغير . وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا ، ففقد واحد منهم ، فأتت زوجته عليا ، فدعا الستة ، فسألهم عنه ، فأنكروا ، ففرقهم ، وأقام كل واحد عند سارية ، ووكل به من يحفظه ، ودعا واحدا منهم ، فسأله فأنكر ، فقال : الله أكبر . فظن الباقون أنه قد اعترف ، فدعاهم فاعترفوا ، فقال للأول : قد شهدوا عليك ، وأنا قاتلك . فاعترف ، فقتلهم .

وإن لم يعرف عدالتهما ، بحث عنها ، فإن لم تثبت عدالتهما ، قال للمدعي : زدني شهودا . وإن لم تكن له بينة ، عرفه الحاكم أن لك يمينه .

وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي ; لأن اليمين حق له ، فلم يجز استيفاؤها من غير مطالبة مستحقها ، كنفس الحق . فإن استحلفه من غير مسألة ، أو بادر المنكر فحلف ، لم يعتد بيمينه . لأنه أتى بها في غير وقتها .

وإذا سألها المدعي ، أعادها له ; لأن الأولى لم تكن يمينه . وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعى عليه ، ثم أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة ، جاز ; لأنه لم يسقط حقه منها ، وإنما أخرها . وإن قال : أبرأتك من هذه اليمين . سقط حقه منها في هذه الدعوى ، وله أن يستأنف الدعوى ; لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين .

فإن استأنف [ ص: 125 ] الدعوى ، فأنكر المدعى عليه ، فله أن يحلفه ; لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين ، فإن حلف سقطت الدعوى ، ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى ، لا في هذا المجلس ، ولا في غيره .

وإن كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة ، جاز ، وسقطت دعواهم باليمين ; لأنها حقهم ; ولأنه لما جاز ثبوت الحق ببينة واحدة لجماعة ، جاز سقوطه بيمين واحدة . قال القاضي : ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يمينا .

وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ; لأن اليمين حجة في حق الواحد ، فإذا رضي بها اثنان ، صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة ، والحجة الناقصة لا تكمل برضى الخصم ، كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد .

والصحيح الأول ; لأن الحق لهما ، فإذا رضيا به ، جاز ، ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة ، أن يكون لكل واحد بعض اليمين ، كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة ، لا يكون لكل حق بعض البينة ، فأما إن حلفه لجميعهم يمينا واحدة بغير رضاهم ، لم تصح يمينه . بلا خلاف نعلمه .

وقد حكى الإصطخري ، أن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حلف رجلا بحق لرجلين يمينا واحدة ، فخطأه أهل عصره . وإن قال المدعي : لي بينة غائبة .

قال له الحاكم : لك يمينه ، فإن شئت فاستحلفه ، وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك ، وليس لك مطالبته بكفيل ، ولا ملازمته حتى تحضر البينة . نص عليه أحمد .

وهو مذهب الشافعي ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { شاهداك أو يمينه ، ليس لك إلا ذلك } . فإن أحلفه ، ثم حضرت بينته ، حكم بها ، ولم تكن مزيلة للحق ; لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة ، فإذا وجدت البينة بطلت اليمين ، وتبين كذبها .

وإن قال : لي بينة حاضرة ، وأريد يمينه ثم أقيم بينتي . لم يملك ذلك . وقال أبو يوسف : يستحلفه ، وإن نكل قضى عليه ; لأن في الاستحلاف فائدة ، وهو أنه ربما نكل ، فقضى عليه ، فأغنى عن البينة .

ولنا ، قوله عليه السلام : { شاهداك أو يمينه ، ليس لك إلا ذلك } . و " أو " للتخيير بين شيئين ، فلا يكون له الجمع بينهما ، ولأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة ، فلم يشرع غيرها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها ، كما لو لم يطلب يمينه ، ولأن اليمين بدل ، فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها ، كسائر الأبدال مع مبدلاتها ، وإن قال المدعي : لا أريد إقامتها ، وإنما أريد يمينه أكتفي بها .

استحلف ; لأن البينة حقه ، فإذا رضي بإسقاطها ، وترك إقامتها ، فله ذلك ، كنفس الحق . فإن حلف المدعى عليه ، ثم أراد المدعي إقامة بينته ، فهل يملك ذلك ؟ يحتمل وجهين ; أحدهما ، له ذلك ; لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف ، كما لو كانت غائبة .

والثاني ، ليس له ذلك ; لأنه قد أسقط حقه من إقامتها ، ولأن تجويز إقامتها ، يفتح باب الحيلة ، لأنه يقول : لا أريد إقامتها . ليحلف خصمه ، ثم يقيمها . فإن كان له شاهد واحد في الأموال ، عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ، ويستحق ، فإن قال : لا أحلف أنا ، وأرضى بيمينه . استحلف له ، فإذا حلف ، سقط الحق عنه ، فإن عاد المدعي بعدها ، فقال : أنا أحلف مع شاهدي . لم يستحلف ، ولم يسمع منه .

ذكره القاضي . وهو مذهب الشافعي ; لأن اليمين فعله وهو قادر عليها ، فأمكنه أن يسقطها ، بخلاف البينة . وإن عاد قبل أن يحلف المدعى عليه ، فبذل اليمين ، فقال القاضي : ليس له ذلك في هذا المجلس . وكل موضع قلنا : يستحلف المدعى عليه .

فإن الحاكم يقول له : إن حلفت ، وإلا جعلتك ناكلا ، وقضيت عليك . ثلاثا ، فإن حلف ، وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك .

[ ص: 126 ] فإن سكت عن جواب الدعوى ، فلم يقر ولم ينكر ، حبسه الحاكم حتى يجيب ، ولا يجعله بذلك ناكلا . ذكره القاضي ، في المجرد . وقال أبو الخطاب : يقول له الحاكم : إن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، وحكمت عليك . ويكرر ذلك عليه ، فإن أجاب وإلا جعله ناكلا ، وحكم عليه ; لأنه ناكل عما توجه عليه الجواب فيه ، فيحكم عليه بالنكول عنه ، كاليمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية