صفحة جزء
( 8283 ) مسألة ، قال : ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان : قرأه علينا ، أو قرئ عليه بحضرتنا ، فقال : اشهدا على أنه كتابي إلى فلان وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة ; أحدها ، أن يشهد به شاهدان عدلان ، ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب ، وختمه ، ولا يجوز له قبوله بذلك ، في قول أئمة الفتوى .

وحكي عن الحسن ، وسوار ، والعنبري ، أنهم [ ص: 130 ] قالوا : إذا كان يعرف خطه وختمه ، قبله . وهو قول أبي ثور ، والإصطخري . ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه ; لأن ذلك تحصل به غلبة الظن ، فأشبه شهادة الشاهدين . ولنا ، أن ما أمكن إثباته بالشهادة ، لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر ، كإثبات العقود ; ولأن الخط يشبه الخط ، والختم يمكن التزوير عليه ، ويمكن الرجوع إلى الشهادة ، فلم يعول على الخط ، كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط ، وفي هذا انفصال عما ذكروه .

إذا ثبت هذا ، فإن القاضي إذا كتب الكتاب ، دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه ، فيقرأ عليهما الكتاب ، أو يقرؤه غيره عليهما ، والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرآه ، فإن لم ينظرا ، جاز ; لأنه لا يستقرئ إلا ثقة ، فإذا قرئ عليهما قال : اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان .

وإن قال : اشهدا علي بما فيه . كان أولى ، وإن اقتصر على قوله : هذا كتابي إلى فلان . فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئ ; لأنه يحملهما الشهادة ، فاعتبر فيه أن يقول : اشهدا علي . كالشهادة على الشهادة . وقال القاضي : يجزئ . وهو مذهب الشافعي .

ثم إن كان ما في الكتاب قليلا ، اعتمد على حفظه ، وإن كثر فلم يقدرا على حفظه ، كتب كل واحد منهما مضمونه ، وقابل بها لتكون معه ، يذكر بها ما يشهد به ، ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا ; لئلا يدفع إليهما غيره ، فإذا وصل الكتاب معهما إليه ، قرأه الحاكم أو غيره عليهما ، فإذا سمعاه قالا : نشهد أن هذا كتاب فلان القاضي إليك ، أشهدنا على نفسه بما فيه . لأنه قد يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه .

قال أبو الخطاب : ولا يقبل إلا أن يقولا : نشهد أن هذا كتاب فلان . لأنها أداء شهادة ، فلا بد فيها من لفظ الشهادة . ويجب أن يقولا : من عمله . لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله . وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم ، مقبولا أو غير مقبول ; لأن الاعتماد على شهادتهما ، لا على الخط والختم . فإن امتحا الكتاب ، وكانا يحفظان ما فيه ، جاز لهما أن يشهدا بذلك ، وإن لم يحفظا ما فيه ، لم تمكنهما الشهادة . وقال أبو حنيفة ، وأبو ثور : لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي .

ولنا ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا إلى قيصر ، ولم يختمه ، فقيل له : إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم ، فاتخذ الخاتم . } واقتصاره على الكتاب دون الختم ، دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول ، وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ليقرءوا كتابه ، ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه ، فوجب قبوله ، كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم .

إذا ثبت هذا ، فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب ، وما يتعلق به الحكم . قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة ، وبعضهم ينظر فيها ، وبعضهم لا ينظر ؟ قال : إذا حفظ فليشهد . قيل : كيف يحفظ ، وهو كلام كثير ، قال : يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع . قلت : يحفظ المعنى ؟ قال : نعم .

قيل له : والحدود والثمن وأشباه ذلك ؟ قال : نعم . ولو أدرج الكتاب وختمه ، وقال : هذا كتابي ، اشهدا علي بما فيه . أو قد : أشهدتكما على نفسي بما فيه . لم يصح هذا التحمل .

وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي . [ ص: 131 ] وقال أبو يوسف : إذا ختمه بختمه وعنوانه ، جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا ، فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان . ويتخرج لنا مثل هذا ; لأنهما شهدا بما في الكتاب ، فجاز ، وإن لم يعلما تفصيله ، كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم ، جازت الشهادة ، وإن لم يعرفا قدرها .

ولنا ، أنهما شهدا بمجهول لا يعلمانه ، فلم تصح شهادتهما ، كما لو شهدا أن لفلان على فلان مالا . وفارق ما ذكره ، فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها ، وها هنا الشهادة على ما في الكتاب دون الكتاب ، وهما لا يعرفانه . الشرط الثاني ، أن يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته ، لم يسغ قبوله ; لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم ، فهو فيه كالعامي .

الشرط الثالث ، أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته ، فإن وصله في غيره ، لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته . ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته ، لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته ، إلا أن يتراضيا به ، فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به ، وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا .

ولو ترافع إليه خصمان ، وهو في موضع ولايته ، من غير أهل ولايته ، كان له الحكم بينهما ; لأن الاعتبار بموضعهما ، إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ، ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان ، فيكون الأمر على ما أذن فيه ومنع منه ; لأن الولاية بتوليته ، فيكون الحكم على وفقها .

التالي السابق


الخدمات العلمية