صفحة جزء
( 8297 ) فصل : وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه ، وكان ممن يصلح للقضاء ، فحكم بينهما ، جاز ذلك ، ونفذ حكمه عليهما . وبهذا قال أبو حنيفة . وللشافعي قولان ; أحدهما ، لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما ; لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به ، ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه .

ولنا ما روى أبو شريح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : { إن الله هو الحكم ، فلم تكنى أبا الحكم ؟ قال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني ، فحكمت بينهم ، ورضي علي الفريقان . قال : ما أحسن هذا ، فمن أكبر ولدك } ؟ قال : شريح . قال : " فأنت أبو شريح " . أخرجه النسائي . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من حكم بين اثنين تراضيا به ، فلم يعدل بينهما ، فهو ملعون } .

ولولا أن حكمه يلزمهما ، لما لحقه هذا الذم ، ولأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد ، وحاكم عمر أعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه ، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ، ولم يكونوا قضاة .

فإن قيل : فعمر وعثمان كانا إمامين ، فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا . قلنا : لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة ، وبهذا لا يصير قاضيا ، وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله ، فإنه يلزمه قبل المعرفة به .

إذا ثبت هذا ، فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض به حكم من له ولاية . وبهذا قال الشافعي .

وقال أبو حنيفة : للحاكم نقضه إذا خالف رأيه ; لأن هذا عقد في حق الحاكم ، فملك فسخه ، كالعقد الموقوف في حقه . ولنا ، أن هذا حكم صحيح لازم ، فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه ، كحكم من له ولاية ، وما ذكروه غير صحيح ، فإن حكمه لازم للخصمين ، فكيف يكون موقوفا ؟ ولو كان كذلك ، لملك فسخه ، وإن لم يخالف رأيه ، ولا نسلم الوقوف في العقود .

إذا ثبت هذا ، فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم ; لأنه لا يثبت إلا برضاه ، فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف . وإن رجع بعد شروعه ، ففيه وجهان ; أحدهما ، له ذلك ; لأن الحكم لم يتم ، أشبه قبل الشروع . والثاني ، ليس له ذلك ; لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه ، رجع ، فيبطل المقصود به .

( 8298 ) فصل : قال القاضي : وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء ; النكاح ، واللعان ، والقذف ، والقصاص ; لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها ، فاختص الإمام بالنظر فيها ، ونائبه يقوم مقامه . وقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد ، أنه ينفذ حكمه فيها .

ولأصحاب الشافعي وجهان ، كهذين .

وإذا كتب هذا القاضي بما حكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين ، لزمه قبوله ، وتنفيذ كتابه ; لأنه حاكم نافذ الأحكام ، فلزم قبول كتابه ، كحاكم الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية