صفحة جزء
( 8369 ) فصل : في قراءة القرآن بالألحان : أما قراءته من غير تلحين ، فلا بأس به ، وإن حسن صوته ، فهو أفضل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : { زينوا أصواتكم بالقرآن } . وروي : { زينوا القرآن بأصواتكم } . وقال : { لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود } .

وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى : لقد مررت بك البارحة ، وأنت تقرأ ، ولقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود . فقال أبو موسى : لو أعلم أنك تسمع ، لحبرته لك تحبيرا . } وروي { أن عائشة رضي الله عنها أبطأت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : أين كنت يا عائشة ؟ . فقالت : يا [ ص: 178 ] رسول الله ، كنت أستمع قراءة رجل في المسجد ، لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته . فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستمع قراءته ، ثم قال : هذا سالم مولى أبي حذيفة ، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا } .

وقال صالح : قلت لأبي : " زينوا القرآن بأصواتكم " . ما معناه ؟ قال : أن يحسنه . وقيل له : ما معنى : " من لم يتغن بالقرآن " . قال : يرفع صوته به . وهكذا قال الشافعي . وقال الليث : يتحزن به ، ويتخشع به ، ويتباكى به . وقال ابن عيينة ، وعمرو بن الحارث ، ووكيع : يستغني به .

فأما القراءة بالتلحين ، فينظر فيه ; فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات ، فلا بأس به ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأ ، ورجع ، ورفع صوته . قال الراوي : لولا أن يجتمع الناس علي ، لحكيت لكم قراءته . وقال عليه السلام : { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } . وقال : { ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت ، يتغنى بالقرآن ، يجهر به } . ومعنى أذن : استمع .

قال الشاعر :

في سماع يأذن الشيخ له

وقال القاضي : هو مكروه على كل حال . ونحوه قول أبي عبيد ، وقال معنى قوله : { ليس منا من لم يتغن بالقرآن } . أي : يستغني به . قال الشاعر :

وكنت امرأ زمنا بالعراق     عفيف المناخ كثير التغني

قال : ولو كان من الغناء بالصوت ، لكان من لم يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه وسلم . وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة . وقال القاضي أحمد بن محمد البرتي : هذا قول من أدركنا من أهل العلم .

وقال الوليد بن مسلم : يتغنى بالقرآن ، يجهر به . وقيل : يحسن صوته به . والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به ; لأنه لو كان مكروها ، لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يصح حمله على التغني في حديث : { ما أذن الله لشيء ، كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن } . على الاستغناء ; لأن معنى أذن : استمع ، وإنما تستمع القراءة ، ثم قال : يجهر به . والجهر صفة القراءة ، لا صفة الاستغناء .

فأما إن أفرط في المد والتمطيط وإشباع الحركات ، بحيث يجعل الضمة واوا ، والفتحة ألفا ، والكسرة ياء ، كره ذلك . ومن أصحابنا من يحرمه ; لأنه يغير القرآن ، ويخرج الكلمات عن وضعها ، ويجعل الحركات حروفا . وقد روينا عن أبي عبد الله ، أن رجلا سأله عن ذلك ، فقال له : ما اسمك ؟ قال : محمد . قال : أيسرك أن يقال لك : يا موحامد ؟ قال : لا . فقال : لا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان ، إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى . فقال له رجل : فيكلمون ؟ فقال : لا . كل ذا . واتفق العلماء على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين .

وروى بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اقرءوا القرآن بالحزن ، فإنه نزل بالحزن } . وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال لرجل : لو قرأت . وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه . وقال زهير بن حرب : كنا عند يحيى القطان ، فجاء محمد بن سعيد الترمذي ، فقال له يحيى : اقرأ . فقرأ ، فغشي على يحيى حتى حمل فأدخل . وقال محمد بن صالح العدوي : قرأت عند يحيى بن سعيد القطان ، فغشي عليه [ ص: 179 ] حتى فاته خمس صلوات .

التالي السابق


الخدمات العلمية