عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية

مصطفى محمد حميداتو

صفحة جزء
المبحث الثاني: ميزات مدرسة ابن باديس التربوية

المطلب الأول: مصادر التربية عند ابن باديس

قبل تحديد المصادر التي اعتمد عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس في عمليته التربوية، نلقي أولا نظرة سريعة على فلسفته التربوية.

إذا كانت العملية التربوية تهتم بتزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات، التي تساعده على التكيف مع تغيرات البيئة المادية والاجتماعية، أو بعبارة أخرى تزويد الفرد بخلاصة التراث والحضارة السائدة في المجتمع في وقت وجيز، فإن فلسفة التربية تقدم له المقاييس والمعايير التي يختار على أساسها تلك المعارف والخبرات >[1] .

أما فلسفة التربية الإسلامية، فهي مستوحاة من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، اللذين رسما للمسلم منهج سلوكه في الدنيا، وعلاقته بما حوله في عالمي الغيب والشهادة.

والتربية عند ابن باديس هـي التربية الإسلامية، التي تعتبر الطريق السليم لإيجاد المجتمع الإسلامي، وإنقاذ الشعب من وهدة الذوبان في الحضارة الغربية المادية، وعليه فإن المصادر التي اعتمد عليهـا الشيـخ عبد الحميد بن باديس في مسيرته التربوية، هـي نفسها مصادر التربية الإسلامية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 171 ] ( تركت فيكم شيئين، ما إن تمسكتم بهما، لا تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي ) >[2] .

إن اعتبـار كتاب الله تعالى وسنة رسـوله صلى الله عليه وسلم مصـدران للتربيـة عند ابن باديس، له ما يدعمه في تاريخ هـذا الرجل، فقد قضى شطر عمره شارحا لكتاب الله تعالى في حلقات استمرت ربع قرن، واثقا بأن هـذا الكتاب الذي سعد به المسلمون الأوائل، جدير بأن يوقظ هـذا الشعب ويسعده إذا حسنت النوايا وحشدت الهمم.

كان -رحمه الله- يفتتح مجلة (الشهاب) بنماذج من تفسيره للقرآن الكريم، تحت عنوان: (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير) . ويعلل ابن باديس تركيزه على القرآن الكريم في تربية الأجيال قائلا: (فإننا نربي -والحمد لله- تلامذتنا على القرآن، ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هـؤلاء الرجال الربانيين تعلق هـذه الأمة آمالها، وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم) >[3] .

وأما المصدر الثاني الذي استقى منه الإمام ابن باديس منهجه التربوي فهو: الصحيح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم .

فقد اعتنى بشرح موطأ إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، [ ص: 172 ] وخصص جزءا من (الشهاب) لنشر مقتطفات من ذلك الشرح، تحت عنوان: (مجالس التذكير من حديث البشير النذير) .

هذه باختصار أهم المصادر التي اعتمد عليها الشيـخ عبـد الحميـد ابن باديس رحمه الله في مسيرته التربوية.

المطلب الثاني: أساليب التربية أو الوسائل المعنوية للتربية عند ابن باديس

الأساليب جمع أسلوب، وهو الطريق، ويطلق على الفن من القول أو العمل.. وفي التربية، تعني الطرق التي ينتهجها المربون مع متعلميهم. وقد استخدم الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، أساليب ووسائل متنوعة لإنجاح جهوده التربوية، استوحاها من مصادر الإسلام الأصيلة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، نذكر أهمها في ما يلي:

1 - التربية بالقدوة

القدوة هـي الأسوة، يقال فلان قدوة يقتدى به، وقد يضم فيقال: لي بك (قدوة) و (قدة) >[4] ، والتلميذ في المدرسة يحتاج إلى نموذج عملي وقدوة يراها في كل مرب من مربيه، ليوقن ويتحقق بأن ما يطلب منه من السلوك والأخلاق هـو أمر واقعي يمكن ممارسته، فهو يأخذ بالتقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد، وعليه فإن إنجاح العملية التربوية يتوقف إلى حد كبير على وجود المربي، الذي يحقق بسلوكه وممارساته [ ص: 173 ] التربوية، المثال الصادق لأهداف المنهج التربوي، المراد إقامته وتحقيقه.

فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه من الرسل، فقال: ( أولئك الذين هـدى الله فبهداهم اقتده ) (الأنعام:90) .

وأمر الله المؤمنين بأن يقتـدوا برسولـه صلى الله عليه وسلم ، فقـال: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) (الأحزاب:21) .

وخاطب الله عز وجل رسوله والمؤمنين جميعا بقوله: ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه ) (الممتحنة:4) .

هكذا ارتبط التعليم في الإسلام من البداية بالقدوة الحسنة، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقتدون بسلوك الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان هـو يطلب منهم محاكاته والأخذ عنه قائلا: ( صلوا كما رأيتموني أصلي. ) (رواه البخاري من حديث مالك بن الـحويرث ) ( يا أيها الناس خذوا مناسككم ) (رواه مسلم والنسائي واللفظ له من حديث جابر) .

وقد أسهبنا في ذكر الأمثلة العملية للتربية بالقدوة عند ابن باديس، عند كلامنا عن سماته الشخصية، بما يغني عن إعادتها في هـذا المبحث.

2 - التربية بالوعظ والتذكير

حقيقة التذكير عند ابن باديس أن تقول لغيرك قولا يذكر به ما كان جاهلا أو ناسيا أو عنه غافلا، وقد يقوم الفعل والسمت والهدى مقام القول، فيسمى تذكيرا مجازا وتوسعا >[5] .

وحاجة العباد إلى هـذا التذكير، أعظم ما يحتاجون إليه وأشرفه >[6] . [ ص: 174 ]

وكان النبي صلى الله عليه وسلم على سنة إخوانه من الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام- في القيام بتذكير العباد، متمثلا أمر ربه تعالى له: ( فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:21) .

وقوله تعالى: ( فذكر إن نفعت الذكرى ) (الأعلى:9) .

وقوله تعالى: ( فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45) .

وأما الوعظ والموعظة، فهو الكلام الملين للقلب بما فيه من ترغيب وترهيب، فيحمل السامع -إذا اتعظ وقبل الوعـظ وأثـر فيـه- على فعـل ما أمر به، وترك ما نهي عنه >[7] .

والموعظة الحسنة عند ابن باديس، هـي التي ترقق القلوب، لتحملها على الامتثال لما فيه خيري الدنيا والآخرة، وإنما تكون كذلك إذا حسن لفظها بوضوح دلالته على معناها، وحسن معناها بعظيم وقعه في النفوس، فعذبت في الأسماع، واستقرت في القلوب، وبلغت مبلغها من دواخل النفس البشرية، فأثارت الرغبة والرهبة، وبعثت الرجاء والخـوف بلا تقنيط من رحمة الله، ولا تأمين من مكره، وانبعثت عن إيمان ويقين، وتأدت بحماس وتأثر، فتلقتها النفس من النفس، وتلقاها القلب من القلب >[8] .

وعلى الرغم من أن ابن باديس كان خطيبا واعظا مفوها بليغ الكلام، إلا أنه اهتم بالتكوين الأساس والبناء التربوي أكثر من الوعظ، ذلك لأن [ ص: 175 ] الوعظ في حقيقته يجدي في مجتمع صالح قد تحدث فيه أخطاء، فيقوم الوعاظ عند ذلك بتنبيه الخاطئين بإيقاظ وتحريك تقوى الله في نفوسهم.

لكن الأمـر يختلف بالنسبـة إلى حالـة المجتمـع الجزائـري في أيـام ابن باديس، حيث لم يبق في نفوس عامة الناس إلا إسلام طرقي قبوري، من تبعه فقد كل حيوية وفاعلية، ومن أعرض عنه ارتمى في أحضان الثقافة الفرنسية اللادينية.

لذلك فإن ابن باديس لم يركز كثيرا على الوعظ وإن لم يهمله، بل وجه جل اهتمامه للتربية والتعليم، وكان يعيب على خطباء عصره الذين لم يدركوا حقيقة الوعظ ولا التذكيـر، وكانـت أغلب خطبهـم لا تناسب الواقع ولا تتماشى مع النوازل التي ألـمت بالأمة، فأثناء شرحه لقول الله تبارك وتعالى: ( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) (الفرقان:32) ، وتطرقه إلى محاسن هـذه الشريعة، وأنها نزلت بالتدريج المناسب حسب الوقائع، قال: (انظر إلى هـذه الحكمة في هـذا التنزيل، كيف نزلت آياته على حسب الوقائع ا أليس في هـذا قـدوة صالحة لأئمة الجمع وخطبائها في توخيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال ا بلى والله.. ولقد كانت الخطب النبوية والخطب السلفية كلها على هـذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال، وأما هـذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال، فما هـي إلا مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا، فإلى [ ص: 176 ] الله المشتكى، وبه المستعان) >[9]

3 - التشجيع على التحصيل النفسي، وتنمية القدرات الذاتية للطالب

لا شك أن الدروس والبرامج المدرسية إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقى فنون كثيرة من فنون العلم يحصلها الطالب ويصل إليها عن طريق البحث والمطالعة بنفسه أو مع زملائه.

(فالتحصيل الدرسي يؤدي إلى فهم قواعد العلم وتطبيقها حتى تحصل ملكة استعمالها، وأما توسيع دائرة الفهم والاطلاع فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه، بمطالعته للكتب) >[10] .

ويحث ابن باديس الطلبة ومعلميهم على عدم الاكتفاء بالبرامج المدرسية وحدها، قائلا: (فعلى الطلبة والمتولين أمر الطلبة، أن يسيروا على خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي، ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم، ويوسعوا نطاق التفكير) >[11] .

كما ركز ابن باديس في خطته التربوية على تنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم في ما يدرسون ويعالجون من مسائل، ويفكروا تفكيرا صحيحا مستقلا عن تفكير غيرهم مع الاستئناس به، موضحا ذلك بقوله: (إذا كان التفكير لازما للإنسان في جميع شئونه وكل ما يتصل به إدراكه، فهو لطلاب العلم ألزم من كل إنسان، فعلى [ ص: 177 ] الطالب أن يفكر فيما يفهم من المسائل وفيما ينظر من الأدلة، تفكيرا صحيحا مستقلا عن تفكير غيره، وإنما يعرف تفكير غيره ليستعين به، ثم لابد له من استعماله فكره هـو بنفسه) >[12]

4 - التربية بتفريغ الطاقة وملء الفراغ بما ينفع

إن استغلال طاقة الشباب، وتوجيهها وجهتها الصحيحة، بطريقة تستهوي ميولهم ورغباتهم وتبعث فيهم المرح والحيوية، له ما يدعمه في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فقد أرشد صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى بعض تلك الطرق فقال: ( علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل. ) >[13] .. وكان صلى الله عليه وسلم يسابق بين خيل الصحابة >[14] ، ليعرفوا أن ذلك ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة.

وأكثر من ذلك، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها ، أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على باب حجرتها والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترها بردائه تنظر إلى لعبهم >[15] .

والحقيقة أن الطاقة المتولدة لدى الإنسان عموما والشباب خصوصا، ينبغي إطلاقها وتوجيهها نحو عمل إيجابي بناء، وأن كبحها وتخزينها من غير مبرر، مخل بالتوازن الجسمي والنفسي للإنسان. [ ص: 178 ]

وقد اعتنت المدرسة الحديثة بهذا الجانب، واستحدثت ما يسمى بالنشاط المدرسي، الذي أصبح جزءا من المناهج المعمول بها في أغلب المؤسسات التعليمية.

وقد أدرك الإمام ابن باديس رحمه الله، الأهمية البالغة لعملية توجيه طاقة الشباب المخزنة، وتفريغها في ما يعود عليهم بالمصلحة لحمايتهم من الانحراف والشذوذ، فكان ينهى متعلميه عن تبديد أوقاتهم وجهودهم فيما لا فائدة فيه، ويرشدهم إلى الترويح عن أنفسهم بما يطيب لهم من المباحات والمستحبات، كالسباحة، والخروج إلى الطبيعة، والاستمتاع في أحضانها، والتفكر في مبدعها >[16] .

كان ابن باديس مربيا محنكا، له حس مرهف، وعبقرية متدفقة في فهم نفوس متعلميه، ومعرفة ميولها وحاجتها إلى ما يبعث المرح والحيوية والتفاؤل.. يقول عن نفسه: (لم تفارقني مهنة المعلم، فكنت أجدني عن غير قصد أقرر نكتة في بيت من الشعر، أو عبرة في حادث من التاريخ) >[17] , مخافة السآمة على سامعيه.

والحقيقة أن ابن باديس رحمه الله، لم يقتصر على ما ذكرنا من الأساليب، فقد كان يربي بالقصة لما لها من تأثير ساحر على القلوب >[18] ، ويربي بالعادة ويستخدمها وسيلة من وسائل التربية، بزرع الخصال الحميدة في نفوس الناشئة، وجعلها فيهم متأصلة يزاولونها بغير جهد ولا عياء. [ ص: 179 ]

وقد كان لمدرسة ابن باديس التربوية من الخصائص ما جعلها محل اهتمام الدارسين، ذلك ما سنتطرق إليه في المطلب القادم إن شاء الله.

المطلب الثالث: خصائص التربية عند ابن باديس

إذا جاز لنا تلخيص خصائص التربية عند ابن باديس، فإنها باختصار تربية شاملة متكاملة. وإذا عرفنا أن التربية عند ابن باديس مستوحاة من مصادر الإسلام الأصيلة، أدركنا أنها شاملة لكل جوانب الحياة في الدنيا والآخرة.

إن التربية عند ابن باديس لا تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم، فهي تربية للجسم والروح والعقل معا.

يقول رحمه الله: (الإنسان مأمور بالمحافظة على عقله وخلقه وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء، وتوقي الأذى، والتريض على العمل >[19] .

والتربية عند ابن باديس لا تقتصر على مكان دون آخر، فهي في المدرسة والمسجد والنادي، وحتى في الشارع والسوق، وفي ما يلي نذكر بعض تلك الخصائص:

1 - تربية روحية

يرى ابن باديس أن المخاطب من الإنسان هـو نفسه، وأن ما يظهره الجسد من تصرفات لا يعدو أن يكون انعكاسا لما تضمره تلك النفس، [ ص: 180 ] التي لا صلاح للإنسان إلا بصلاحها: ( قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ) (الشمس:9-10) .. لذلك ركز ابن باديس على تطهير الروح وتنزيهها عن مساوئ الأخلاق، وتحليتها بمكارمها، لتسمو بصاحبها نحو الكمال الإنساني، ذلك لأن الإنسان (مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من اختلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني وهو جسده، ولا يخلص من كدرات جثمانه، ولا ينجو من أسباب نقصانه، إلا بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه) >[20] .

2 - تربية جسمية

لم يفصل ابن باديس بين هـذا الجانب وغيره من جوانب التربية، فقد أولى اهتماما بالغا للتربية الجسدية، التي لا تقل أهمية عن التربية الروحية، ذلك أن كثيرا من الأعمال تتوقف على سلامة الأبدان وقوتهـا، فضعيف الجسـم يقـل أداؤه العقـلي والاجتمـاعي، وبالتالي لا يكون عنصرا فعالا في مجتمعه.

فالرياضة البدنية والوجبات الغذائية، لها دور كبير في الحفاظ على سلامة الأبدان وصحتها، يقول ابن باديس عند تفسيره لقول الله تعالى: ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) (المؤمنون:51) :

(تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات، ولهذا قدم الأمر بالأكل على الأمر بالعمل، فليس من [ ص: 181 ] الإسلام تحريم الطيبات التي أحلها الله، كما حرم غلاة المتصوفة اللحم.. وليس من الإسلام تضعيف الأبدان وتعذيبها، كما يفعل متصوفة الهنادك ومـن قلـدهم من المنتسبين إلى الإسـلام.. والميزان العـدل فـي ذلك، هـو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم .

وفي تقديم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، تنبيه على أنه هـو الذي يثمرها، لأن الغذاء الطيب يصلح عليه القلب والبدن، فتصلح الأعمال، كما أن الغذاء الخبيث يفسد به القلب والبدن، فتفسد الأعمال) >[21] .

3 - تربية سلوكية عملية

كمـا ذكـرنا عند حديثنا عن القـدوة في التربيـة، فإن ابن باديس لم يكتف في مسيرته التربوية بالأقوال دون الأفعال، لأن من تمام كمال المسلم أن تتطابق أقواله مع أفعاله.

لذا حرص أن يكون من تلاميذه ومريديه رجـالا عمليين، يطبقـون ما يتعلمونه، فيعبدون الله على علم وبصيرة، فكان يحثهم على أن يمثلوا الأخلاق الإسلامية الفاضلة بين أقوامهم -إذا رجعوا إليهم- فيحببوا الناس في العلم، ويكونوا لهم قدوة فيه وفي العمل به، وكان رحمه الله يوصيهم (بنشر ما تعلموه برفق ولطف، وأن يكونوا مظاهر محبة ورحمـة على ما قد يلقونه من جفوة من بعض الناس) >[22] . [ ص: 182 ]

4 - تربية عقلية

كما ذكرنا سابقا، فإن التربية عند ابن باديس اهتمت بجميع جوانب المتعلم، فكما اهتمت بالروح والجسد، فإنها أولت العقل عناية خاصة، بالحفاظ عليه وتثقيفه بكل ما هـو نافع من العلوم الدينية والدنيوية، يقول ابن باديس: (حافظ على عقلك، فهو النور الإلهي الذي منحته، لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك) >[23] .

وقد تميزت المدرسة الباديسية بتنمية القدرات العقلية للطلبة، وحثهم على إعمال عقولهم فيما يدرسون، وأن يفكروا تفكيرا صحيحا مستقلا عن تفكير غيرهم مع الاستفادة من تفكير غيرهم، يقول ابن باديس: (التفكير التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد، وخير منهما الجاهل البسيط) >[24] .

وكان رحمه الله، يحثهم على تكريم العقول، بتنزيهها عن الأوهام والشكوك والخرافات والضلالات، وربطها على العلوم والمعارف وصحيح الاعتقادات >[25] .

والخلاصة: أن التربية عند ابن باديس، لم تقتصر على جانب واحد من جوانب شخصية المتعلم. فقد اعتنت بصحة الأبدان وسلامتها، وصفاء الأروح وتزكيتها، وتنشيط العقول وصيانتها.

هذه باختصار بعض الخصائص التي تميزت بها مدرسة ابن باديس التربوية. [ ص: 183 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية