صفحة جزء
فصل استدركنا شيئا يحتج به الشافعيون في إجازتهم السلم حالا في الذمة إلى غير أجل ، وهما خبران : أحدهما : رويناه من طريق البزار قال : نا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت : { ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذخيرة وهي العجوة فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ، فالتمس التمر فلم يجده ، فقال للأعرابي : يا عبد الله إنا ابتعنا منك جزورا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده ؟ فقال الأعرابي : واغدراه ، فزجره الناس وقالوا : أتقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ، ثم أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ثانية كما أوردنا ، فقال الأعرابي : واغدراه ، قال : فلما لم يفهم عنه الأعرابي أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم حكيم : أقرضينا وسقا من تمر الذخيرة حتى يكون عندنا فنقضيك ؟ فقالت : أرسل رسولا يأتي يأخذه ، فقال للأعرابي : انطلق معه حتى يوفيك } وذكر باقي الخبر .

فهذا لا حجة لهم فيه على مذهبهم ومذهبنا ; لأن البيع لم يكن تم بعد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأعرابي ; لأنهما لم يتفرقا .

هكذا نص الحديث ، ويبين ذلك { قول النبي صلى الله عليه وسلم له إنا كنا ابتعنا منك بعيرا بوسق من تمر الذخيرة ، ونحن نرى أنه عندنا ، فالتمسناه فلم نجده } [ ص: 50 ] وقول أم المؤمنين في الخبر نفسه ، فلما لم يفهم عنه الأعرابي استقرض من أم حكيم فصح أنه عليه السلام حينئذ أمضى معه العقد المحدود وتم البيع بحضور الثمن وقبض الأعرابي .

هذا الخبر حجة على الحنفيين ، والمالكيين ; لأنهم يرون البيع يتم قبل التفرق وليس لهم أن يقولوا : إن هذا منسوخ بذكر الأجل في السلم ; لأن ذكر الأجل في السلم كان في أول الهجرة : كما روينا من طريق البخاري نا صدقة هو ابن خالد نا سفيان بن عيينة أخبرني ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس قال : { قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين ، والثلاث فقال : من أسلف في شيء فليسلف من كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم } وكان خبر عائشة بعد ذلك .

فإن قيل : إن قول النبي صلى الله عليه وسلم { دعوه فإن لصاحب الحق مقالا } دليل على أن البيع قد كان تم بينهما .

قلنا : لأنه عليه السلام لم يقل : إن هذا الأعرابي صاحب حق ، إنما أخبر أن لصاحب الحق مقالا فقط ، وهو كذلك ، وحاشا الله أن يكون الأعرابي صاحب حق وهو يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالغدر ؟

والخبر الثاني : رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير نا يزيد بن زياد بن أبي الجعد نا أبو صخرة جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي : قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بسوق ذي المجاز وهو ينادي بأعلى صوته يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا ، وأبو لهب يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه ، فلما ظهر الإسلام قدم المدينة أقبلنا من الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ، ومعنا ظعينة لنا ، فأتانا رجل فسلم علينا ، فرددنا عليه السلام ، ومعنا جمل لنا ، فقال : أتبيعون الجمل ؟ فقلنا نعم ، قال : بكم ؟ قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : قد أخذته ثم أخذ برأس الجمل حيث دخل المدينة ، فتلاومنا وقلنا : أعطيتم جملكم رجلا لا تعرفونه ؟ فقالت الظعينة : لا تلاوموا فلقد رأيت وجها ما كان ليخفركم ما رأيت وجها أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشي أتانا رجل فقال : السلام عليكم إني رسول رسول الله إليكم [ ص: 51 ] وإنه يأمركم أن تأكلوا حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا ، ففعلنا ، فلما كان من الغد دخلنا المدينة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب الناس } وذكر باقي الخبر .

قال علي : هذا لا حجة لهم فيه لوجهين : أحدهما : أنه ليس فيه دليل على أن الذي اشترى الجمل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنه علم بصفة ابتياعه ، والأظهر أن غيره كان المبتاع بدليل قول طارق بأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بذي المجاز ومرة على المنبر يخطب ، فلو كان عليه السلام هو الذي ابتاع الجمل لكان قد رآه ثلاث مرات وهذا خلاف الخبر .

فصح أنه كان غيره ، ولا حجة في عمل غيره ، وقد كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجمال البارع ، والوسامة ، والمعاملة الجميلة .

وقد اشترى بلال وما يقطع بفضل أحد من الصحابة عليه غير أبي بكر ، وعمر : صاعا من تمر بصاعي تمر ، وقد يكون مشتري الجمل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه إلى القوم ثمن الجمل ففعل .

الوجه الثاني : أنه لو صح أنه عليه السلام كان المشتري ، أو أنه علم الأمر فلم ينكره لكان حديث ابن عباس بإيجاب الأجل زائدا عليه زيادة يلزم إضافتها إليه ، ولا يحل تركها .

فبطل تعلقهم بهذين الخبرين ، وليعلم من قرأ كتابنا هذا أنهما صحيحان لا داخلة فيهما إلا أن القول فيهما كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية