صفحة جزء
1691 - مسألة : وبيع المكاتب ، والمكاتبة ما لم يؤديا شيئا من كتابتهما جائز متى شاء السيد ، وكذلك وطء المكاتبة جائز ما لم تؤد شيئا من كتابتها ، فإن حملت أو لم تحمل فهي على مكاتبتها ، فإذا بيع بطلت الكتابة فإن عاد إلى ملكه فلا كتابة لهما إلا بعقد محدد - إن طلبه العبد أو الأمة - فإن أديا شيئا من الكتابة - قل أو كثر - حرم وطؤها جملة ، وجاز بيع ما قابل منهما ما لم يؤديا . فإن باع ذلك الجزء بطلت الكتابة فيه خاصة وصح العتق فيما قابل منهما ما أديا ، فإن عاد الجزء المبيع إلى ملك البائع يوما ما لم تعد فيه الكتابة ولا الرجوع في الكتابة أصلا ، بغير الخروج من الملك .

وكذلك إن مات السيد فإن ما قابل مما أديا حر وما بقي رقيق للورثة قد بطلت فيه الكتابة ، فإن كانا لم يكونا أديا شيئا بعد فقد بطلت الكتابة كلها ، وهما رقيق للورثة . وكذلك إن مات المكاتب أو المكاتبة ولم يكونا أديا شيئا ، فقد ماتا مملوكين ، ومالهما كله للسيد ، فإن كانا قد أديا من الكتابة فما قابل منهما ما أديا فهو حر ، ويكون ما قابل ذلك الجزء مما تركا ميراثا للأحرار من ورثتهما ، ويكون ما قابل ما لم يؤديا مما تركا للسيد ، وقد بطل باقي الكتابة ، وما حملت به المكاتبة قبل الكتابة أو بعدها ، إلى أن يتم له مائة وعشرون ليلة مذ حملت به ، فحكمه حكمها حتى يتم له العدد المذكور ، فما عتق منها بالأداء عتق منه . فإذا نفخ فيه الروح فقد استقر أمره ولا يزيد قيمة العتق فيه بعد بأدائها .

برهان ذلك ما ذكرناه في المسألة التي قبل هذه من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ، ويرق بقدر ما لم يؤد فهذا يوجب كل ما ذكرنا ، وإذ هو عبد ما لم يؤد ، فبيع المرء عبده ووطؤه أمته حلال له ، وما علمنا في دين الله تعالى مملوكا ممنوعا من بيعه .

[ ص: 235 ] ومنع الحنفيون ، والمالكيون من البيع والوطء ، وما نعلم لهم في ذلك حجة أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا قياس ، ولا معقول ، بل قولهم خلاف ذلك كله ، لا سيما احتجاجهم لقولهم الفاسد بما لم يصح من أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فإذ هو عبد ، فما المانع من بيعه ، وإذ هي أمة فما المانع من وطئها ، والله تعالى يقول { : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } فلا تخلو من أن تكون مما ملكت يمينه فوطؤها له حلال ، أو مما لا تملك يمينه ، فهي إما حرة وإما أمة لغيره ، لا يعقل في دين الله تعالى وفي طبيعة العقول إلا هذا . ولو أنهم اعترضوا بهذا على أنفسهم مكان اعتراضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تزوجه أم المؤمنين صفية ، وجعل عتقها صداقها ، فقالوا : لا يخلو من أن يكون تزوجها وهي مملوكة له ، فلا يجوز ذلك ، أو يكون تزوجها وهي حرة فهذا نكاح بلا صداق ، لكان أسلم لهم من الإثم في الأخرى ، ومن السخرية بهذا القول السخيف في الأولى .

وجوابهم : أنه عليه الصلاة والسلام ما تزوجها إلا وهي حرة بصداق صحيح ، قد حصلت عليه وآتاها إياه ، كما أمره ربه عز وجل ، وهو عتقها التام قبل الزواج إن تزوجته . ولا يخلو المكاتب ضرورة من أحد أقسام أربعة لا خامس لها : إما أن يكون حرا من حين العقد كما ذكر عن بعض الصحابة رضي الله عنهم - وهم لا يقولون بهذا - أو يكون عبدا كما يقولون أو يكون عبدا ما لم يؤد فإذا أدى شرع فيه العتق فكان بعضه حرا وبعضه مملوكا - كما نقول نحن - أو يكون لا حرا ولا عبدا ، ولا بعضه حر ، ولا بعضه عبد ، وهذا محال لا يعقل .

فإذ هو عندهم عبد فبيع العبد ووطء الأمة حلال ما لم يمنع من ذلك نص ، ولا نص هاهنا مانعا من ذلك أصلا ، بل قد جاء النص الصحيح ، والإجماع المتيقن على جواز بيع المكاتب الذي لم يؤد شيئا .

كما روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا الليث هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا وقالوا : إن [ ص: 236 ] شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق قالت : ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال الناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى من اشترط شرطا ليس في كتاب الله تعالى فليس له وإن اشترط مائة مرة . شرط الله أحق وأوثق } .

ومن طريق مسلم نا أبو كريب محمد بن العلاء نا أبو أسامة نا هشام بن عروة - يعني عن أبيه - أخبرتني عائشة أم المؤمنين قالت : { دخلت علي بريرة فقالت : إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين في كل سنة أوقية فأعينيني ؟ فقالت لها : إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت ؟ فذكرت ذلك لأهلها فقالوا : لا إلا أن يكون الولاء لهم ؟ قالت : فأتتني فذكرت ذلك فانتهرتها فقلت : لاها الله إذا ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألني فأخبرته ، فقال : اشتريها فأعتقيها واشترطي لهم الولاء فإن الولاء لمن أعتق ؟ ففعلت ، ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق } وذكر باقي الحديث .

ومن طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم المؤمنين عائشة نحوه . ومن طريق البخاري نا أبو نعيم - هو الفضل بن دكين - نا عبد الواحد بن أيمن حدثني { أبي أيمن قال : دخلت على عائشة أم المؤمنين فقلت لها : كنت لعتبة بن أبي لهب ومات وورثه بنوه وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو المخزومي فأعتقني واشترط بنو عتبة الولاء ؟ فقالت عائشة : دخلت علي بريرة وهي مكاتبة فقالت : اشتريني فاعتقيني ؟ فقلت : نعم ، فقالت : لا يبيعونني حتى يشترطوا ولائي ، فقلت : لا حاجة لي بذلك ، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه فقال لعائشة : اشتريها وأعتقيها } فذكرت الخبر . ومن طريق أبي داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد - هو ابن سلمة - عن خالد - هو الحذاء - عن عكرمة عن ابن عباس { أن مغيثا كان عبدا فقال : يا رسول الله [ ص: 237 ] اشفع إليها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بريرة اتقي الله فإنه زوجك وأبو ولدك ، قالت : يا رسول الله تأمرني بذلك ؟ قال : لا ، إنما أنا شافع ، فكانت دموعه تسيل على خده ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من حب مغيث بريرة وبغضها إياه ؟ } .

ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا خالد عن عكرمة { عن ابن عباس قال : لما خيرت بريرة رأيت زوجها يتبعها في سكك المدينة ودموعه تسيل على لحيته ، فكلم له العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب إليها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوجك وأبو ولدك فقالت : أتأمرني به يا رسول الله ؟ قال : إنما أنا شافع ، فقالت فإن كنت شافعا فلا حاجة لي فيه ، واختارت نفسها ، وكان يقال له : المغيث ، وكان عبدا لآل المغيرة من بني مخزوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : ألا تعجب من شدة بغض بريرة لزوجها ومن شدة حب زوجها لها ؟ }

فهذا خبر ظاهر فاش ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين ، وبريرة ، وابن عباس . ورواه عن ابن عباس عكرمة ، وعن بريرة عروة ، وعن أم المؤمنين القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وعمرة ، وأيمن . ورواه عن أيمن ابنه عبد الواحد ، وعن عمرة : يحيى بن سعيد الأنصاري وعن القاسم : ابنه عبد الرحمن ، وعن عروة : الزهري ، وهشام ابنه ، ويزيد بن رومان . ورواه عن هؤلاء الناس ، والأئمة الذين يكثر عددهم ، فصار نقل كافة وتواتر لا تسع مخالفته - وهذا بيع المكاتب قبل أن يؤدي شيئا .

ولا شك عند كل ذي حس سليم أنه لم يبق بالمدينة من لم يعرف ذلك ; لأنها صفقة جرت بين أم المؤمنين وطائفة من الصحابة وهم موالي بريرة . ثم خطب الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بيعها خطبة في غير وقت الخطبة ولا يكون شيء أشهر من هذا . ثم كان من مشي زوجها يبكي خلفها في أزقة المدينة ما زاد الأمر شهرة عند [ ص: 238 ] الصبيان والنساء والضعفاء ، فلاح يقينا أنه إجماع من جميع الصحابة ، إذ لا يجوز ألبتة أن يظن بصاحب خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكد فيه هذا التأكيد .

وهذا هو الإجماع المتيقن لا إعطاء صاع من حنطة صدقة في بني الحارث بن الخزرج على نحو ميل من المدينة ، ولا جلد عمر أربعين جلدة زائدة على سبيل التعزير في الخمر قد صح عنه خلافها ، وعن غيره من الصحابة قبله وبعده . ولا سبيل لهم إلى أن يوجدونا عن أحد من الصحابة المنع من بيع المكاتب قبل أن يؤدي إلا تلك القولة الخاملة التي لا نعلم لها سندا عن ابن عباس .

قال أبو محمد : فبلحوا عند هذه ، فقالت منهم عصبة : إنما بيعت كتابتها . فقلنا : كذبتم كذبا مفتعلا للوقت ، وفي الخبر تكذيبكم بأن أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ، وكان الولاء لها . وقال بعضهم : إنها عجزت ؟ فقلنا : كذبتم كذبا مفتعلا من وقته ، وفي الخبر : أن هذه القصة كانت بالمدينة ، والعباس ، وابنه عبد الله بها ، وأن الكتابة كانت لتسع سنين في كل سنة أوقية ، وأنها لم تكن بعد أدت شيئا .

ولا خلاف بين أحد من أهل العلم والرواية في أن العباس ، وعبد الله لم يدخلا المدينة ولا سكناها ، إلا بعد فتح مكة ، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم مذ دخل المدينة بعد الفتح إلا عامين وأربعة أشهر ، فأين عجزها وأين حلول نجومها ؟ تبارك الله ما أسهل الكذب على هؤلاء القوم في الدين . نعوذ بالله من البلاء ؟

وروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : غلام كاتبته فبعته رقبة أو كاتبته فعجز ؟ قال عطاء : هو عبد للذي ابتاعه . وقاله أيضا : عمرو بن دينار ، قلت لعطاء : فقضى كتابته فعتق ؟ قال عطاء : هو مولى للذي ابتاعه ؟ قلت لعطاء : كيف والكتابة عتق ؟ قال عطاء : كلا ، ليست عتقا ، إنما يقال في المكاتب يورث فلا يبيعه الذي ورثه إلا بإذن عصبة الذي كاتبه . وقاله أيضا : عمرو بن دينار ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أذن لي في بيعه إخوتي [ ص: 239 ] بنو أبي ولم يأذن بنو جدي ؟ قال عطاء : حسبك أن يأذن لك وارثه من عصبته يومئذ ، قال عطاء : وأما مكاتب أنت كاتبته فبعته رقبة والذي عليه : فلا تستأذن فيه أحدا ، فإن عجز فهو للذي ابتاعه ، وإن عتق فهو مولى الذي ابتاعه . فهذا عطاء ، وعمرو بن دينار : يجيزان بيع رقبة المكاتب بلا عجز ، ولم يخالفهما ابن جريج . والعجب كله من إجازة بعضهم بيع كتابة المكاتب - وهو حرام - لأنه بيع غرر ، ومنعوا من بيع رقبته قبل أن يؤدي - وهو حلال طلق - . ثم قالوا : إن أدى فعتق فولاؤه لبائع كتابته ، وإن عجز فهو رقيق للمشتري كتابته - وهذا تخليط لا نظير له لأنه بيع ، لا بيع وتمليك للرقبة لمن لم يشترها - وكل ذلك باطل .

واحتج بعضهم في منع بيعه بقول الله تعالى { : أوفوا بالعقود } . قال أبو محمد : وهذا عليهم لا لهم ; لأنهم يرون تعجيزه إن عجز ، وإبطال كتابته ، ونسوا قول الله تعالى { : أوفوا بالعقود } . فقالوا : المسلمون عند شروطهم ؟ فقلنا : فأجيزوا شرطه على المكاتبة وطئها ، كما فعل سعيد بن المسيب وغيره ، فقالوا : هذا شرط ليس في كتاب الله تعالى ؟ فقلنا : والتعجيز شرط ليس في كتاب الله تعالى ولا فرق . ثم لم يختلفوا فيمن عقد على نفسه لله عز وجل عتق غلامه هذا - إن أفاق أبوه أو قدم غائبه - فإن له بيعه ما لم يقدم الغائب ، وما لم يفق الأب فهلا منعوا من هذا ب { أوفوا بالعقود } . فإن قالوا : قد لا يستحق العتق بموت الأب المريض ، والغائب ؟ قلنا : وقد لا يستحق المكاتب العتق عندكم بالعجز ولا فرق ، فكيف وليس قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } مانعا من البيع ، وإنما هو مانع من أن يبطل عقده قاصدا إليه بالإبطال ، فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية