صفحة جزء
[ ص: 39 ] مسألة : الامتحان في الحدود ، وغيرها : بالضرب ، أو السجن أو التهديد ؟ قال علي رحمه الله : لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب ، ولا بسجن ، ولا بتهديد ، لأنه لم يوجب ذلك قرآن ، ولا سنة ثابتة ، ولا إجماع ، ولا يحل أخذ شيء من الدين ، إلا من هذه الثلاثة النصوص بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام } .

فحرم الله تعالى البشر ، والعرض ، فلا يحل ضرب مسلم ، ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن ، أو السنة الثابتة .

وقال تعالى { فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه }

فلا يحل لأحد أن يمنع مسلما من المشي في الأرض بالسجن بغير حق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة .

وأما من صح قبله حق ولواه ومنعه ، فهو ظالم قد تيقن ظلمه ، فواجب ضربه أبدا حتى يخرج مما عليه ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع } ولأمره عليه السلام بجلد عشرة فأقل فيما دون الحد على ما نذكره في " باب التعزير " إن شاء الله تعالى ، وإنما هذا فيما صح أنه عنده أو يعلم مكانه ، لما ذكرنا .

وأما من كلف إقرارا على غيره فقط - وقد علم أنه يعلم الجاني - فلا يجوز تكليفه ذلك ، لأنها شهادة ، ومن كتم الشهادة فإنه فاسق ، لقول الله تعالى { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } .

فإذ هو فاسق آثم ، فلا ينتفع بقوله ، لا يحل قبول شهادته حينئذ ، وهو مجرح بذلك أبدا ما لم يتب ، فلا يحل أن يهدد أحد ، ولا أن يروع بأن يبعث إلى ظالم يعتدي عليه - وبالله تعالى التوفيق .

قال أبو محمد رحمه الله : ولا خلاف في أن كل هذا حرام في الذمي كما هو في المسلم ، فإن ضرب حتى أقر ، فقد جاء عن بعض السلف في هذا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون [ ص: 40 ] نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعل ثعلبا الشامي على المدينة يستخلفه ، فأتى بإنسان اتهم بسرقة ، فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة ، فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر : لا تقطع يده حتى يبرزها .

قال أبو محمد رحمه الله : أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء ، لأن أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن ، ولا سنة ، ولا إجماع ، وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين ، فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقينا صحة ما أقر به - ولا يشك في أنه صاحب ذلك - فالواجب إقامة الحد عليه ، وله القود - مع ذلك - على من ضربه - السلطان كان أو غيره - لأنه ضربه ظالما له دون أن يجب عليه ضرب - وهو عدوان - وقد قال الله تعالى { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه } الآية ، وليس ظلمه ، وما وجب عليه من حد الله تعالى ، أو لغيره ، بمسقط حقه عند غيره في ظلمه له ، بل يؤخذ منه ما عليه ، ويعطي هو من غيره .

وهكذا قال مالك ، وغيره ، في السارق يمتحن فيخرج السرقة بعينها : أن عليه القطع إذا كانت مما يقطع فيه ، إلا أن يقول : دفعها إلي إنسان أدفعها له ، وإنما اعترفت لما أصابني من الضرب : فلا يقطع .

قال أبو محمد رحمه الله : وهذا صحيح ، وبه يقول .

وأما البعثة في المتهم وإيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن واجب : { كبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف اليهودي - الذي ادعت الجارية التي رض رأسها - فسيق إليه فلم يزل به - عليه السلام - حتى اعترف فأقاد منه } .

وكما فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم القتل وأسر إلى أحدهم ، ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر ، ثم دعا بالآخر فسأله فأقر ، حتى أقروا كلهم : فهذا حسن ، لأنه لا إكراه فيه ، ولا ضرب .

وقد كره هذا مالك ، ولا وجه لكراهيته ، لأنه ليس فيه عمل محظور ، وهو فعل صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك ، وإنما الكره . [ ص: 41 ]

ما حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبيه عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من كلام يدرأ عني سوطا أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به .

وعن شريح أنه قال : السجن كره ، والوعيد كره ، والقيد كره ، والضرب كره .

وقال أبو محمد رحمه الله : كل ما كان ضررا في جسم ، أو مال ، أو توعد به المرء في ابنه ، أو أبيه ، أو أهله ، أو أخيه المسلم ، فهو كره ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه } .

ولما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية