صفحة جزء
923 مسألة :

ولا يحل لمسلم أن يفر عن مشرك ، ولا عن مشركين ولو كثر عددهم أصلا ; لكن ينوي في رجوعه التحيز إلى جماعة المسلمين إن رجا البلوغ إليهم ، أو ينوي الكر إلى القتال ، فإن لم ينو إلا تولية دبره هاربا فهو فاسق ما لم يتب .

قال الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم } .

قال قوم : إن الفرار له مباح من ثلاثة فصاعدا - وهذا خطأ .

واحتجوا في ذلك بقول الله - تعالى - : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } .

وروينا عن ابن عباس أنه قال " إن فر رجل من رجلين فقد فر ، وإن فر من ثلاثة فلم يفر " .

قال أبو محمد : أما ابن عباس فقد خالفوه في مئين من القضايا ، منها قراءة أم [ ص: 343 ] القرآن جهرا في صلاة الجنازة ، وإخباره : أنه لا صلاة إلا بها وغير ذلك كثير ، ولا حجة إلا في كلام الله - تعالى - ، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم .

وأما الآية فلا متعلق لهم فيها ; لأنه ليس فيها لا نص ولا دليل بإباحة الفرار عن العدد المذكور ; وإنما فيها : أن الله - تعالى - علم أن فينا ضعفا ، وهذا حق إن فينا لضعفا ولا قوي إلا وفيه ضعف بالإضافة إلى ما هو أقوى منه إلا الله - تعالى - وحده فهو القوي الذي لا يضعف ولا يغلب .

وفيها : أن الله - تعالى - خفف عنا فله الحمد وما زال ربنا - تعالى - رحيما بنا يخفف عنا في جميع الأعمال التي ألزمنا .

وفيها : أنه إن كان منا مائة صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منا ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ، وهذا حق ، وليس فيه أن المائة لا تغلب أكثر من مائتين ولا أقل أصلا ; بل قد تغلب ثلاثمائة ، نعم وألفين وثلاث آلاف ولا أن الألف لا يغلبون إلا ألفين فقط لا أكثر ولا أقل ، ومن ادعى هذا في الآية فقد أبطل وادعى ما ليس فيها منه أثر ، ولا إشارة ، ولا نص ، ولا دليل ، بل قد قال - عز وجل - : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ، فظهر أن قولهم لا دليل عليه أصلا ، ونسألهم عن فارس بطل شاكي السلاح قوي لقي ثلاثة من شيوخ اليهود الحربيين هرمى مرضى رجالة عزلا أو على حمير ، أله أن يفر عنهم ؟ لئن قالوا : نعم - ليأتن بطامة يأباها الله والمؤمنون وكل ذي عقل ، وإن قالوا : لا ليتركن قولهم .

وكذلك نسألهم عن ألف فارس ، نخبة ، أبطال ، أمجاد ، مسلحين ، ذوي بصائر ، لقوا ثلاثة آلاف ، من محشودة بادية النصارى ، رجالة ، مسخرين ألهم أن يفروا عنهم ؟ وروينا عن وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال : ليس الفرار من الزحف من الكبائر ، إنما كان ذلك يوم بدر خاصة . قال أبو محمد : وهذا تخصيص للآية بلا دليل .

روينا من طريق البزار نا عمرو بن علي ، ومحمد بن مثنى ، قالا جميعا : نا يحيى [ ص: 344 ] بن سعيد القطان نا عوف الأعرابي عن يزيد الفارسي نا ابن عباس أن عثمان قال له : كانت ( الأنفال ) من أول ما أنزل بالمدينة .

وروينا من طريق مسلم نا هارون بن سعيد الأبلي نا ابن وهب أخبرنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات } فعم عليه السلام ولم يخص .

ومن طريق البخاري نا عبد الله بن محمد نا معاوية بن عمرو نا أبو إسحاق هو الفزاري - عن موسى بن عقبة عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله قال : كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ؟ فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف } فعم عليه السلام ولم يخص ، وإسلام أبي هريرة وابن أبي أوفى بلا شك بعد نزول " سورة الأنفال " التي فيها الآية التي احتجوا بها فيما ليس فيها منه شيء .

وقد خالف ابن عباس غيره كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي ، نا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي نا خالد بن الحارث الهجيمي نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي قال : سمعت رجلا سأل البراء بن عازب : أرأيت لو أن رجلا حمل على الكتيبة وهم ألف ، ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال البراء لا ، ولكن التهلكة : أن يصيب الرجل الذنب فيلقي بيده ويقول : لا توبة لي .

وعن عمر بن الخطاب : إذا لقيتم فلا تفروا .

وعن علي ، وابن عمر : الفرار من الزحف من الكبائر .

ولم يخصوا عددا من عدد ، ولم ينكر أبو أيوب الأنصاري ، ولا أبو موسى الأشعري أن يحمل الرجل وحده ، على العسكر الجرار ويثبت حتى يقتل . [ ص: 345 ]

وقد ذكروا حديثا مرسلا من طريق الحسن { أن المسلمين لقوا المشركين فقال رجل : يا رسول الله أشد عليهم ، أو أحمل عليهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتراك قاتل هؤلاء كلهم اجلس ، فإذا نهض أصحابك فانهض وإذا شدوا فشد } وهذا مرسل لا حجة فيه ; بل قد صح عنه عليه السلام : { أن رجلا من أصحابه سأله ما يضحك الله من عبده ؟ قال : غمسه يده في العدو حاسرا فنزع الرجل درعه ودخل في العدو حتى قتل رضي الله عنه } .

التالي السابق


الخدمات العلمية