صفحة جزء
( قال : ) ولا يرد الرجل امرأته عن عيب بها ، وإن فحش عندنا ، ولكنه بالخيار إن شاء طلقها ، وإن شاء أمسكها ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يثبت له حق الرد بالعيوب الخمسة وهي الرتق والقرن ، والجنون والجذام والبرص ، فإذا ردها انفسخ العقد ، ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها ، وإن كان دخل بها قبل العلم بالعيب فلها مهر مثلها ، ويرجع به على من زوجها منه ، وحجته في ذلك ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فلما خلا بها وجد في كشحها بياضا فردها ، وقال : دلستموني أو قال : دلستم علي } ، والرد متى ذكر عقيب العيب يكون بطريق الفسخ ، وقال : صلى الله عليه وسلم { فر من المجذوم فرارك من الأسد } ، وعن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار للزوج بهذه العيوب .

والمعنى فيه : أن النكاح عقد معاوضة يتحمل الفسخ بأسباب فيثبت فيه حق الرد بعيب يخل بالمقصود كالبيع ، والمقصود بالنكاح طبعا قضاء الشهوة [ ص: 96 ] وشرعا النسل ، وهذه العيوب تخل بهذا المقصود أما الرتق والقرن يفوته أصلا ، وأما الجنون والجذام ، والبرص يخل به من حيث إن الطبع ينفر من صحبة مثلها ، وربما تعدى إلى الولد بخلاف سائر العيوب من العمى ، والشلل فإنه لا يخل بالمقصود ، وأحد العوضين في هذا العقد ، وهو المهر عندكم يرد بالعيب الفاحش دون اليسير فكذلك العوض الآخر ، وكذلك المرأة إذا وجدت زوجها عنينا أو مجبوبا يثبت لها الخيار ، ولا يثبت في سائر العيوب فكذا في حق الزوج ; لأنهما في حكم هذا العقد سواء ، وإذا كان العيب الذي يخل بالمقصود في جانب الزوج يثبت له الخيار دون الذي لا يخل بالمقصود ، فكذلك في جانبها ، والزوج وإن كان متمكنا من الطلاق فهو محتاج إلى إثبات الخيار له ; ليسقط به المهر عن نفسه كما قلتم في الصغير إذا بلغ ، وقد زوجه عمه يثبت له الخيار ، وإن كان متمكنا من الطلاق ، وحجتنا في ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه لا ترد الحرة عن عيب ، وعن علي رضي الله عنه قال : إذا وجد بامرأته شيئا من هذه العيوب فالنكاح لازم له إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أثبت الخيار فالمراد خيار الطلاق ، وكذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ردها أي ردها بالطلاق ، ألا ترى أنه قال : الحقي بأهلك ، وهذا من كنايات الطلاق ، والذي قال : { فر من المجذوم فرارك من الأسد } قلنا : نحن نمكنه من الفرار ، ولكن بالطلاق .

والمعنى فيه : أن الرد بالعيب فسخ العقد بعد تمامه بلا خلل في ولاية المحل ، والنكاح لا يتحمل هذا النوع من الفسخ ، ألا ترى أنه لا يتحمل الفسخ بالإقالة ; وهذا لأن ملك النكاح ملك ضروري لا يظهر في حق النقل إلى الغير ، ولا في حق الانتقال إلى الورثة ، وإنما أظهره الشرع في حق الطلاق للتقصي عن عهدة النكاح عند عدم موافقة الأخلاق ، وهذا لا يقتضي ظهوره في حق الفسخ بعد تمامه ; لأنه لا ضرورة فيه فكان في هذا الفسخ بمنزلة الإسقاطات كالطلاق ، والعتاق بخلاف الفسخ بعدم الكفاءة أو بخيار البلوغ فإنه فسخ قبل تمامه لخلل في ولاية المحل ، فيكون في معنى الامتناع من تمامه ، وكذلك الفسخ بخيار العتق فإنه امتناع من التزام زيادة الملك على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى ; ولأن هذه العيوب لا تخل بموجب العقد ، وهو الحل فلا يثبت خيار الفسخ كالعمى ، والشلل والزمانة ، فإن الاستيفاء ثمرة ، وفوات الثمرة لا يؤثر في عقد النكاح ، ألا ترى أن الاستيفاء يفوت بموت أحد الزوجين ، ولا يوجب ذلك انفساخ النكاح حتى لا يسقط شيء من المهر ، وعيب الجنون والجذام فيما هو المقصود دون الموت [ ص: 97 ] لأن الاستيفاء هنا يتأتى ، ومقصود النسل يحصل ، وبه فارق البيع فإن هناك فوات التسليم قبل القبض يوجب انفساخ البيع فكذلك وجود العيب ، وكذلك أيضا هلاك المهر قبل التسليم يثبت الرجوع بقيمته فوجود العيب الفاحش به كذلك بخلاف المنكوحة ; ولأن وجود العيب تأثيره في انعدام تمام الرضا به ، والنكاح لزومه لا يعتمد تمام الرضا كما بينا في الهزل ، وعدم الرؤية بخلاف البيع ، وهذا بخلاف ما إذا وجدت المرأة زوجها مجبوبا أو عنينا ; لأن هناك لا يثبت لها خيار الفسخ عندنا ، وإنما يثبت لها حق المطالبة بالإمساك بالمعروف ، وذلك في أن يوفيها حقها في الجماع فإذا عجز عن ذلك تعين التسريح بالإحسان ، والتسريح طلاق ، وعندنا هنا له أن يطلقها .

ثم المعنى فيه : أن هناك قد انسد عليها باب تحصيل المقصود ; لأنها لا تتوصل إلى ذلك من جهة غيره مادام تحته ، وهو غير محتاج إليها فلو لم يثبت لها الخيار بقيت معلقة لا ذات بعل ، ولا مطلقة فأثبتنا لها الخيار ; لإزالة ظلم التعليق ، وهذا لا يوجد في جانبه ; لأنه متمكن من تحصيل مقصوده من جهة غيرها إما بملك اليمين ، أو بملك النكاح ، ومتمكن من التخلص منها بالطلاق ، ولا معتبر بحاجته إلى التخلص من المهر كما لو ماتت قبل الدخول لا ينفسخ العقد مع قيام حاجته إلى التخلص من المهر يوضح الفرق أن الزوج لو منع حقها في الجماع قصدا إلى الإضرار بها بالإيلاء كان موجبا للفرقة ، فكذلك إذا تعذر عليه إيفاء حقها بالجب والعنة ، والمرأة لو منعت حقه على قصد الإضرار لم يكن له به الخيار بذلك السبب ، فكذلك إذا تعذر عليه الاستيفاء بالرتق أو القرن ، فأما المرأة إذا وجدت بالزوج عيب الجنون أو الجذام أو البرص فليس لها أن ترده به في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ، وعلى قول محمد لها الخيار إذا كان على حال لا تطيق المقام معه ; لأنه تعذر عليها الوصول إلى حقها ; لمعنى فيه فكان بمنزلة ما لو وجدته مجبوبا أو عنينا ، ولكنا نقول : بهذه العيوب لا ينسد عليها باب استيفاء المقصود إنما تقل رغبتها فيه أو تتأذى بالصحبة والعشرة معه ، وذلك غير مثبت لها الخيار ، كما لو وجدته سيئ الخلق أو مقطوع اليدين أو الرجلين بخلاف الجب والعنة على ما قررنا .

يوضح الفرق أن الزوج هناك ظالم في إمساكها من غير حاجة إليها وللقاضي ولاية إزالة الظلم بالطلاق ، وهنا الزوج غير ظالم في إمساكها مع صدق حاجته إليها ، وذلك لا يثبت لها الخيار ، وكذلك إن اشترط أحدهما على صاحبه السلامة من العمى والشلل ، والزمانة فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار ، وكذلك لو شرط الجمال والبكارة ، فوجدها بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار ; لأن فوت [ ص: 98 ] زيادة مشروطة بمنزلة العيب في إثبات الخيار كما في البيع ، وبهذا تبين أنه لا معتبر لتمام الرضا في باب النكاح فإنه لو تزوجها بشرط أنها بكر شابة جميلة فوجدها ثيبا عجوزا شوهاء لها شق مائل وعقل زائل ولعاب سائل ، فإنه لا يثبت له الخيار ، وقد انعدم الرضا منه بهذه الصفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية