صفحة جزء
( رجل ) غصب عبدا أو دابة فأجره ، وأصاب من غلته فالغلة للغاصب ; لأن وجوبها بعقده ، وقد بيناه في كتاب اللقطة ، ولأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد ، والعاقد هو الغاصب ، فإذا هو الذي جعل منافع العبد بعقده مالا فكان بدله له . وفي الأصل قال : قلت : ولم لا يكون لصاحب العبد . ؟ قال : لأنه كان في ضمان غيره ، وكأنه أشار بهذا التعليل إلى قوله صلى الله عليه وسلم : { الخراج بالضمان } فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذي التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الأجر له دون المالك ، ويؤمر أن يتصدق بها ; لأنها حصلت له بكسب خبيث ، فإن مات العبد فالغاصب ضامن بقيمته ، وله أن يستعين بتلك الغلة في ضمان القيمة ; لأنها ملكه ، وما فضل بعد ذلك تصدق به اعتبارا للجزء بالكل .

( فإن قيل : ) القيمة دين في ذمته ، ومن قضى بمال الصدقة دينه فعليه أن يتصدق بمثله ( قلنا : ) نعم ، ولكن التصدق بهذا لم يكن حتما عليه ، ألا ترى أنه لو سلم الغلة إلى المالك مع العبد كان للمالك أن يتناول ذلك ، وليس على الغاصب شيء آخر فهو بما صنع يصير مسلما إلى المالك ، ثم يصير المالك مبرئا له عن ذلك القدر من القيمة بما يقبضه فيزول الخبث بهذا الطريق ، فلا يلزمه التصدق بعوضه ، وإن كان الغاصب باع الدابة وأخذ ثمنها فاستهلكه ، وماتت الدابة عند المشتري فضمن رب الدابة المشتري قيمتها رجع المشتري على الغاصب بالثمن لبطلان البيع باسترداد القيمة منه ، ثم لا يستعين الغاصب بالغلة في أداء الثمن ; لأن الخبث في الغلة ما كان بحق المشتري ، فلا يزول بالوصول إلى يده ، بخلاف الأول فإن الخبث لحق المالك فيزول بوصول الغلة إلى يده ( قال : ) إلا أن يكون عند الغاصب ما يؤدي به الثمن ، فلا بأس حينئذ أن يؤدي من الغلة ; لأنه محتاج إلى تفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس ، وحاجته تقدم على حق الفقراء ، فإذا أصاب بعد ذلك مالا تصدق بمثله إن كان استهلك الثمن يوم استهلكه وهو غني عنه ، وإن كان محتاجا يوم استهلك الثمن لم يكن عليه أن يتصدق بشيء من ذلك ; لأن وجوب الضمان عليه باعتبار استهلاكه الثمن ، ولو استهلك الغلة مكان الثمن ، فإن كان محتاجا فليس عليه أن يتصدق بشيء منه ، وإن كان غنيا فعليه أن يتصدق بمثله فكذلك في استهلاك الثمن ، وإنما قلنا : ذلك ; لأن حق الفقراء في هذا المال بمنزلة حقهم في اللقطة على معنى أن له أن يتصدق ، وله أن يردها على المالك إن شاء . ( ثم ) الملتقط إذا كان محتاجا فله أن يصرف اللقطة إلى حاجة نفسه بخلاف ما إذا كان غنيا فكذلك حكم هذه الغلة .

وليس على [ ص: 78 ] الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر ، وعلل فقال : ( لأنه كان ضامنا ) ، ومعنى هذا أن ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم ، والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه ; ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته ، فإذا اعتبرت المنفعة لإيجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لإيجاب ضمانها مقصودا ، والمنفعة كالكسب ، وقد بينا في الكسب أن الخراج بالضمان فكذلك في المنفعة ، ولكن هذا التعليل يتقاعد في الدار ، فإن الساكن غير ضامن للدار عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله . والأصح بناء هذه المسألة على الأصل المتقدم ، فإن المنافع زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا ، وقد بينا أن زوائد المغصوب لا يكون مضمونا على الغاصب عندنا ، ويكون مضمونا له عند الشافعي رضي الله عنه فكذلك المنفعة ، ولأن الغصب الموجب للضمان عنده يحصل بإثبات اليد ، واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين ، وعندنا لا تتحقق إلا بيد مفوتة ليد المالك ، وذلك لا يتحقق في المنافع ; لأنها لا تبقى وقتين ، فلا يتصور كونها في يد المالك ، ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يده مفوتة ليد المالك فلهذا لا يضمن المنافع بالغصب عندنا .

فأما الإتلاف فيقول : عندنا المنافع لا تضمن بالإتلاف بغير عقد ولا شبهة عقد ، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تضمن ، ومنفعة الحر في ذلك سواء حتى لو استسخر حرا واستعمله عنده يضمن أجر مثله ، وعندنا يأثم ، ويؤدب على ما صنع ، ولكنه لا يضمن شيئا .

وجه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المنفعة مال متقوم فيضمن بالإتلاف كالعين ، وبيان الوصف أن المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به مما هو عندنا ، والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة ، وإنما تعرف مالية الشيء بالتمول ، والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها ، فإن أعظم الناس تجارة الباعة ، ورأس مالهم المنفعة ، وقد يستأجر المرء جملة ويؤجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا ، وولي الصبي يستأجر له بماله فيصح منه ، وبهذا تبين أن المنافع في المالية مثل الأعيان ، والمنفعة تصلح أن تكون صداقا ، وشرط صحة التسمية أن يكون المسمى مالا ، وهكذا يقوله في منافع الحر أنه مال يضمن بالإتلاف إلا أنه إذا حبس حرا لا يضمن منافعه ; لأنه لم يوجد من الحابس إتلاف منافعه ، ولا إثبات يده عليه بل منافع المحبوس في يده كثياب بدنه ، وكما لا يضمن ثياب بدنه بالحبس فكذلك منافعه ، ولئن لم تكن المنفعة مالا فهي متقومة ; لأنها تقوم الأعيان فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها ، ولأنها تملك بالعقد ، ويضمن به صحيحا كان العقد أو فاسدا ، وإنما يملك بالعقد [ ص: 79 ] ما هو متقوم فيضمن بالإتلاف ، وإن لم يكن مالا كالنفوس والأبضاع ، وبفضل العقد الفاسد يتبين المماثلة بين العين والمنفعة في المالية ; لأن الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعا كما بالإتلاف ، وهذا بخلاف رائحة المسك ، فإن من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئا ; لأن الرائحة ليست بمنفعة ، ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب ; ولهذا لا يملك بعقد الإجارة حتى لو استأجر مسكا ليشمه لا يجوز ، ولا يضمن بالعقد أيضا صحيحا كان أو فاسدا . وحجتنا في ذلك حديث عمر وعلي رضي الله عنهما ، فإنهما حكما في ولد المغرور أنه حر بالقيمة ، وأوجبا على المغرور رد الجارية مع عقرها ولم يوجبا قيمة الخدمة مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها ، ومع طلب المدعي بجميع حقه ، فلو كان ذلك واجبا له لما حل لهما السكوت عن بيانه ، وبيان العقر منهما لا يكون بيانا لقيمة الخدمة ; لأن المستوفى بالوطء في حكم جزء من العين ; ولهذا يتقوم عند الشبهة بخلاف المنفعة ، والمعنى فيه أن المنفعة ليست بمال متقوم ، فلا تضمن بالإتلاف كالخمر والميتة .

وبيانه أن صفة المالية للشيء إنما تثبت بالتمول ، والتمول صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة ، والمنافع لا تبقى وقتين ، ولكنها أعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشى ، فلا يتصور فيها التمول ; ولهذا لا يتقوم في حق الغرماء والورثة حتى أن المريض إذا أعان إنسانا بيديه أو أعاره شيئا فانتفع به لا يعتبر خروج تلك المنفعة من الثلث ، وهذا لأن المتقوم لا يسبق الوجود ، فإن المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء ، وبعد الوجود التقوم لا يسبق الإحراز ، والإحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقى وقتين فكيف يكون متقوما ، وعلى هذا نقول : الإتلاف لا يتصور في المنفعة أيضا ; لأن فعل الإتلاف لا يحل المعدوم . وبعد الوجود لا يبقى لحله فعل الإتلاف ، وإثبات الحكم بدون تحقق السبب لا يجوز ، فأما بالعقد يثبت للمنفعة حكم الإحراز ، والتقوم شرعا بخلاف القياس ، وكان ذلك باعتبار إقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لأجل الضرورة والحاجة ، ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة ، وباعتبارها ينعدم التقوم والإتلاف ، وفي الصداق واستئجار الولي إنما يظهر حكم الإحراز والتقوم بالعقد للحاجة ، والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ، ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز ، وكما تتفاوت قيمة العين بتفاوت المنفعة تتفاوت قيمة الطيب بتفاوت الرائحة ، ولم يدل ذلك على كونه مالا متقوما ، ولئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم فهو دون الأعيان في المالية ، وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص ، ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة ، والدين لا يضمن [ ص: 80 ] بالعين ; لأنه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين ، وبيان هذا الكلام أن المنفعة عرض يقوم بالعين ، والعين جوهر يقوم به العرض ، ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما ، والمنافع لا تبقى وقتين ، والعين تبقى أوقاتا ، وبين ما يبقى وما لا يبقى تفاوت عظيم ، والعين لا تضمن بالمنفعة قط ، ومن ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له أيضا ، والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان واحد على تقطيع واحد لا تكون منفعة إحداهما مثلا للمنفعة الأخرى عند الإتلاف .

والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة ، وبهذا فارق ضمان العقد ، فإنه غير مبني على المماثلة باعتبار الأصل بل على المراضاة ، وكيف ينبني على المماثلة ، والمقصود بالعقد طلب الربح . ( ثم ) ضمان العقد مشروع ، وفي المشروع يعتبر الوسع والإمكان ; ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط اعتبار التفاوت الذي ليس في وسعنا الاحتراز عنه في ضمان العقد ، فأما الإتلاف فمحظور غير مشروع ، وضمانه مقدر بالمثل بالنص ، فلا يجوز إيجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الإتلاف .

( فإن قيل : ) يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن إتلاف منافع أموال الناس ، ولأن المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت ، ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم من أن هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن الصفة ، ولو اعتبرناه أسقطنا حق المتلف عليه عن أصل المالية ، وإذا لم يكن بد من إهدار أحدهما فإهدار الصفة أولى من إهدار الأصل ( قلنا : ) قد أوجبنا للزجر التعزير والحبس ، فأما وجوب الضمان للجبران ، فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه ، والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة ماله ، ولو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلما مضافا إلى الشرع ; لأن الموجب هو الشرع ، وذلك لا يجوز ، وإذا لم يوجب الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا ، وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل ، وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة . ولو أوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلا ، فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة أعدل من هذا الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية