صفحة جزء
( قال رحمه الله ) : وإذا ارتهن عبدا بألف درهم وقبضه ، وقيمته ألف درهم ثم وهب المرتهن المال للراهن أو أبرأه منه ، ولم يرد عليه الرهن حتى هلك عنده من غير أن يمنعه إياه [ ص: 90 ] فهو ضامن في القياس قيمته للراهن ، وهو قول زفر ، وفي الاستحسان : لا ضمان عليه ، وهو قول علمائنا الثلاثة ( رحمهم الله ) وجه القياس : أن بقبض الرهن ثبتت يد الاستيفاء للمرتهن ، ويتم ذلك بهلاك الرهن ، وصيرورته مستوفيا بهلاك الرهن بعد الإبراء بمنزلة استيفائه حقيقة بعد الإبراء فيلزمه رد المستوفى ، ولا يقال إنما يصير مستوفيا من وقت القبض حتى تعتبر قيمته من ذلك الوقت فيكون بريئا بعد الاستيفاء ، وهذا ; لأن الإبراء بعد الاستيفاء صحيح موجب لرد المستوفى كالبائع إذا قبض الثمن ثم أبرأ المشتري عن الثمن .

وقد قال بعد هذا في الرهن بالصداق : إذا طلقها الزوج قبل الدخول بها ثم هلك الرهن لا يلزمها رد شيء على الزوج بطريق الاستحسان ، ولو كان الطريق فيه هذا للزمها رد النصف ; لأن الطلاق قبل الدخول بعد استيفاء الصداق يلزمها رد نصف المستوفى ، ولا وجه لإسقاط الضمان الفائت في مالية الرهن بسبب الإبراء عن الدين ; لأن ضمان العقد بالقبض فيبقى بعد القبض ، وإن سقط الدين ، كما لو استوفى الدين حقيقة أو اشترى بالدين عينا أو صالح منه على عين أو أحاله على إنسان آخر بقي ضمان الرهن ، وإن برئت ذمة الراهن عن الدين ، وكذلك لو تصادقا على أن لا دين ، بقي ضمان الرهن لبقاء القبض ، وإن انعدم الدين ، ولو تبادلا رهنا برهن بقي ضمان الأول ما لا يرده على الراهن لبقاء القبض ، والمشتري إذا قبض المبيع فهو بالخيار ثم فسخ البيع بقي مضمونا بالثمن لبقاء القبض ، وإن انفسخ البيع ، وإذا كان الخيار للبائع ففسخ البيع يبقى مضمونا بالقيمة على المشترى ; لبقاء القبض ، كما في الابتداء .

ولا يقال لو وجب الضمان على المرتهن إنما يجب بسبب الإبراء ، وهو متبرع فيه فلا يوجب عليه ضمانا ; لأن وجوب الضمان عليه ليس بالإبراء ، بل الاستيفاء بهلاك الرهن إلا أنه قبل الإبراء كانت تقع المقاصة ، وبعد الإبراء لا يمكن إثبات المقاصة فيبقى المستوفي مضمونا عليه ، كما لو استوفاه حقيقة بعد الإبراء ، ويلزمه ضمان المستوفي ، وإن كان لو لم يسبق الإبراء لم يكن عليه شيء ، وللاستحسان وجهان : أحدهما : أن ضمان الرهن يثبت باعتبار القبض ، والدين جميعا ; لأنه ضمان الاستيفاء فلا يتحقق ذلك إلا باعتبار الدين ، وبالإبراء عن الدين انعدم أحد المعنيين ، وهو الدين ، والحكم الثابت بعلة ذات وصفين ينعدم بانعدام أحدهما .

( ألا ترى ) أنه لو رد الرهن سقط الضمان لانعدام القبض مع بقاء الدين ، فكذلك إذا أبرئ من الدين يسقط الضمان لانعدام الدين مع بقاء القبض ، وهذا بخلاف ما لو استوفى حقيقة ; لأن هناك الدين بالاستيفاء لا يسقط بل يتقرر ، فإن ما هو المقصود يحصل بالاستيفاء ، وحصول [ ص: 91 ] المقصود بالشيء ينهيه ويقرره ، ولهذا جاز الإبراء عن الثمن بعد الاستيفاء ، فإذا بقي الدين حكما بقي ضمان الرهن ، وبهلاك الرهن يصير مستوفيا فتبين أنه استوفى مرتين فيلزمه رد أحدهما فأما بالإبراء فيسقط الدين فلا يبقى الضمان بعد انعدام أحد المعنيين ، وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح من الدين على عين فذلك استيفاء الدين بطريق المقاصة ، وكذلك إذا أحال على غيره ; لأن بالحوالة لا يسقط الدين ، ولكن ذمة المحال عليه تقوم مقام ذمة المحيل ، وهو بصدد أن يعود إلى ذمة المحيل إذا كان المحتال عليه مفلسا فلهذا بقي ضمان الرهن وكذلك بعد ما تبادلا رهنا برهن ، الدين والقبض باقيان في حق العين الأول فيبقى الضمان فيه ، وإذا تصادقا على أن لا دين فإنما يسلم هذا فيما إذا كان تصادقهما بعد هلاك الرهن ، والدين كان واجبا ظاهرا حين هلك الرهن ، ووجوب الدين ظاهرا يكفي لضمان الرهن فصار مستوفيا فأما إذا تصادقا على أن لا دين ، والرهن قائم ثم هلك الرهن فإن هناك تهلك أمانته ; لأن بتصادقهما من الأصل ، وضمان الرهن لا يبقى بدون الدين والوجه الآخر وعليه الاعتماد : أن مقصود الراهن بتسليم الرهن إلى المرتهن أن يبرئ ذمته عند هلاك الرهن من غير أن يلزمه شيء آخر ، وقد حصل له هذا المقصود بالإبراء قبل هلاك الدين فلا يستوجب عند هلاك الرهن سببا آخر ، كمن عليه الدين المؤجل إذا عجل الدين ثم حل الأجل ، وصاحب المال إذا عجل الزكاة ثم تم الحول لا يلزمه شيء آخر ; لهذا المعنى بخلاف ما إذا استوفى الدين فهناك مقصوده لم يحصل ; لأن ذمته إنما برئت بما أعطى من المال ، وكذلك إذا اشترى بالدين أو صالح أو أحال أو تبادلا رهنا برهن ، فما هو المقصود له عند هلاك الرهن لم يحصل بهذه الأسباب ، وإذا تصادقا على أن لا دين له ثم هلك الرهن بعد ذلك لا يكون مضمونا ; لأن مقصوده حصل بالتصادق حين لم يلزمه شيء آخر ، ولا يقال : مقصود براءة ذمته عند هلاك الرهن بطريق الإيفاء ، وإنما برئت ذمته بطريق الإسقاط بالإبراء أو الإسقاط عن الإيفاء ، وهذا ; لأن الأسباب غير مطلوبة لأعيانها بل لأحكامها ، فإنما ينظر إلى حصول المقصود ، ولا ينظر إلى اختلاف الطريق ، بمنزلة ما لو قال لفلان : علي ألف درهم قرضا .

وقال المقر له : بل هو غصب يلزمه المال لإيفاء ما هو المقصود ، وإن اختلفا في السبب ، وكذلك لو قال لفلان : علي ألف درهم ثمن هذه الجارية التي بعتها وقال فلان : الجارية جاريتك بعتها ولي ألف درهميلزمه المال لحصول المقصود ، وهو سلامة الجارية له ، وإن اختلفا في السيد ، فهذا مثله ، وهذا بخلاف البيع بالضمان ، فإنه هناك انعقد بالقبض ، ولكن فسخ البيع يبطل بالهلاك قبل الرد ، كما [ ص: 92 ] يبطل البيع بالهلاك قبل التسليم ، وهنا الإبراء ما يبطل بهلاك الرهن بعده ; لأن هناك ما هو المقصود للبائع لا يحصل بفسخ البيع ما لم يعد المبيع إلى يده ، فلهذا بقي الضمان ، ولو منعه العبد بعد ما أبرأه عن الدين حتى مات في يده ضمن قيمته ; لأنه كان أمينا فيه فبالمنع بعد طلب الحق يصير غاصبا كالمودع

التالي السابق


الخدمات العلمية