ملك العادل الخابور ونصيبين وحصره سنجار وعوده عنها واتفاق نور الدين أرسلان شاه ومظفر الدين
في سنة ست وستمائة ملك العادل أبو بكر بن أيوب بلد الخابور ونصيبين ، وحصر مدينة سنجار ، والجميع من أعمال الجزيرة ، وهو بيد قطب الدين محمد بن زنكي مودود .
وسبب ذلك أن قطب الدين المذكور كان بينه وبين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود ، صاحب الموصل ، عداوة مستحكمة ، وقد تقدم ذكر ذلك ، فلما كان سنة خمس وستمائة حصلت مصاهرة بين نور الدين والعادل ، فإن ولدا للعادل تزوج بابنة لنور الدين ، وكان لنور الدين وزراء يحبون أن يشتغل عنهم ، فحسنوا له مراسلة العادل والاتفاق معه على أن يقتسما بالبلاد التي لقطب الدين ، وبالولاية التي لولد سنجر شاه بن غازي بن مودود ، وهي جزيرة ابن عمر وأعمالها ، فيكون ملك قطب الدين للعادل ، وتكون الجزيرة لنور الدين .
فوافق هذا القول هوى نور الدين ، فأرسل إلى العادل في المعنى ، فأجابه إلى ذلك مستبشرا وجاءه ما لم يكن يرجوه ; لأنه علم أنه متى ملك هذه البلاد أخذ الموصل وغيرها ، وأطمع نور الدين أيضا في أن يعطي هذه البلاد ، إذا ملكها ، لولده الذي هو زوج ابنة نور الدين ، ويكون مقامه في خدمته بالموصل ، واستقرت القاعدة على ذلك ، وتحالفا عليها فبادر العادل إلى المسير من دمشق إلى الفرات في عساكره ، وقصد الخابور فأخذه .
فلما سمع نور الدين بوصوله كأنه خاف واستشعر ، فأحضر من يرجع إلى رأيهم وقولهم ، وعرفهم وصول العادل ، واستشارهم فيما يفعله ، فأما من أشاروا عليه بذلك فسكتوا ، وكان فيهم من لم يعلم هذه الحال ، فعظم الأمر ، وأشار بالاستعداد للحصار ، وجمع الرجال ، وتحصيل الذخائر وما يحتاج إليه .
فقال نور الدين : نحن فعلنا ذلك وخبره الخبر . فقال : بأي رأي تجيء إلى عدو لك هو أقوى منك ، وأكثر جمعا ، وهو بعيد منك متى تحرك لقصدك تعلم به ، فلا يصل إلا وقد فرغت من جميع ما تريده ، تسعى حتى يصير قريبا منك ، ويزداد قوة إلى قوته .
ثم إن الذي استقر بينكما أنه له يملكه أولا بغير تعب ولا مشقة ، وتبقى أنت لا يمكنك أن تفارق الموصل إلى الجزيرة وتحصرها والعادل هاهنا ، هذا إن وفى لك بما استقرت القاعدة عليه لا يجوز أن تفارق الموصل ، وإن عاد إلى الشام ، لأنه قد صار له ملك خلاط ، وبعض ديار بكر ، وديار الجزيرة جميعها ، والجميع بيد أولاده متى سرت عن الموصل أمكنهم أن يحولوا بينك وبينها ، فما زدت على أن آذيت نفسك وابن عمك ، وقويت عدوك ، وجعلته شعارك ، وقد فات الأمر ، وليس يجوز إلا أن تقف معه على ما استقر بينكما لئلا يجعل لك حجة ويبتدئ بك .
هذا والعادل قد ملك الخابور ونصيبين ، وسار إلى سنجار فحصرها ، وكان في عزم صاحبها قطب الدين أن يسلمها إلى العادل بعوض يأخذه عنها ، فمنعه من ذلك أمير كان معه ، اسمه أحمد بن يرنقش ، مملوك أبيه زنكي ، وقام بحفظ المدينة والذب عنها ، وجهز نور الدين عسكرا مع ولده الملك القاهر ليسيروا إلى الملك العادل .
فبينما الأمر على ذلك إذ جاءهم أمر لم يكن لهم في حساب ، وهو أن مظفر الدين كوكبري ، صاحب إربل ، أرسل وزيره إلى نور الدين يبذل من نفسه المساعدة على منع العادل عن سنجار ، وأن الاتفاق معه على ما يريده ، فوصل الرسول ليلا ، فوقف مقابل دار نور الدين وصاح ، فعبر إليه سفينة عبر فيها ، واجتمع بنور الدين ليلا وأبلغه الرسالة ، فأجاب نور الدين إلى ما طلب من الموافقة ، وحلف له على ذلك ، وعاد الوزير من ليلته ، فسار مظفر الدين ، واجتمع هو ونور الدين ، ونزلا بعساكرهما بظاهر الموصل .
وكان سبب ما فعله مظفر الدين أن صاحب سنجار أرسل ولده إلى مظفر الدين يستشفع به إلى العادل ليبقي عليه سنجار ، وكان مظفر الدين يظن أنه لو شفع في نصف ملك العادل لشفعه ، لأثره الجميل في خدمته ، وقيامه في الذب عن ملكه غير مرة كما تقدم ; فشفع إليه فلم يشفعه العادل ، ظنا منه أنه بعد اتفاقه مع نور الدين لا يبالي بمظفر الدين ، فلما رد العادل شفاعته راسل نور الدين في الموافقة عليه .
ولما وصل إلى الموصل ، واجتمع بنور الدين ، أرسلا إلى الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين ، وهو صاحب حلب ، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان ، صاحب بلاد الروم ، بالاتفاق معهما ، فكلاهما أجاب إلى ذلك ، فتواعدوا على الحركة وقصد بلاد العادل إن امتنع من الصلح والإبقاء على صاحب سنجار ، وأرسلا أيضا إلى الخليفة الناصر لدين الله ليرسل رسولا إلى العادل في الصلح أيضا فقويت حينئذ نفس صاحب سنجار على الامتناع ووصلت رسل الخليفة ، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك ، أستاذ الدار ، والأمير آق باش ، وهو من خواص مماليك الخليفة وكبارهم ، فوصلا إلى الموصل ، وسارا منها إلى العادل وهو يحاصر سنجار ، وكان من معه لا يناصحونه في القتال لا سيما أسد الدين شيركوه ، صاحب حمص والرحبة ، فإنه كان يدخل إليها الأغنام وغيرها من الأقوات ظاهرا ، ولا يقاتل عليها ، وكذلك غيره .
فلما وصلت رسل الخليفة إلى العادل أجاب أولا إلى الرحيل ، ثم امتنع عن ذلك ، وغالط ، وأطال الأمر لعله يبلغ منها غرضا ، فلم ينل منها ما أمله ، وأجاب إلى الصلح على أن يكون له ما أخذ وتبقى سنجار لصاحبها .
واستقرت القاعدة على ذلك ، وتحالفوا على هذا كلهم ، وعلى أن يكونوا يدا واحدة على الناكث منهم ، ورحل العادل عن سنجار إلى حران ، وعاد مظفر الدين إلى إربل ، وبقي كل واحد من الملوك ، وكان مظفر الدين عند مقامه بالموصل قد زوج ابنتين له بولدين لنور الدين ; وهما عز الدين مسعود ، وعماد الدين زنكي .