صفحة جزء
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة، قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار، وهم قالوا: لا بد من ذكر المجرور، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار.

أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا،

وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة، وقيل: إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك،

أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال: إن الله تعالى أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين [ ص: 143 ] عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة،

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة،

وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة،

وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة، وقيل: مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء.

وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم

وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا

، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال:

كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه فأخذهم الطوفان أي عقيب تمام المدة المذكورة، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج:


حتى إذا ما يومها تصبصبا وغم طوفان الظلام الأثأبا



وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا وهم ظالمون أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة

التالي السابق


الخدمات العلمية