صفحة جزء
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.

يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون. إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون. لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين. ونادوا: يا مالك ليقض علينا ربك. قال: إنكم ماكثون ..

يبدأ المشهد بوقوع الساعة فجأة وهم غافلون عنها، لا يشعرون بمقدمها:

هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون !

هذه المفاجأة تحدث حدثا غريبا، يقلب كل ما كانوا يألفونه في الحياة الدنيا:

الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ..

وإن عداء الأخلاء لينبع من معين ودادهم.. لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر، ويملي بعضهم لبعض في الضلال. فاليوم يتلاومون. واليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال وعاقبة الشر. واليوم ينقلبون إلى خصوم يتلاحون، من حيث كانوا أخلاء يتناجون! إلا المتقين .. فهؤلاء مودتهم باقية فقد كان اجتماعهم على الهدى، وتناصحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة..

وبينما الأخلاء يتلاحون ويختصمون، يتجاوب الوجود كله بالنداء العلوي الكريم للمتقين:

يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين. ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ..

[ ص: 3202 ] أي: تسرون سرورا يشيع في أعطافكم وقسماتكم فيبدو عليكم الحبور.

ثم نشهد - بعين الخيال - فإذا صحاف من ذهب وأكواب يطاف بها عليهم. وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس. وفوق شهوة النفوس التذاذ العيون، كمالا وجمالا في التكريم:

يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب. وفيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين ..

ومع هذا النعيم. ما هو أكبر منه وأفضل. التكريم بالخطاب من العلي الكريم:

وأنتم فيها خالدون. وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون. لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون ..

فما بال المجرمين الذين تركناهم منذ هنيهة يتلاحون ويختصمون؟

إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ..

وهو عذاب دائم، وفي درجة شديدة عصيبة. لا يفتر لحظة، ولا يبرد هنيهة. ولا تلوح لهم فيه بارقة من أمل في الخلاص، ولا كوة من رجاء بعيد. فهم فيه يائسون قانطون:

لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ..

كذلك فعلوا بأنفسهم، وأوردوها هذا المورد الموبق، ظالمين غير مظلومين:

وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ..

ثم تتناوح في الجو صيحة من بعيد. صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق:

ونادوا: يا مالك. ليقض علينا ربك ..

إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق. من هناك من وراء الأبواب الموصدة في الجحيم. إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين. إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث. فهم مبلسون يائسون. إنما يصيحون في طلب الهلاك. الهلاك السريع الذي يريح.. وحسب المنايا أن يكن أمانيا! .. وإن هذا النداء ليلقي ظلا كثيفا للكرب والضيق. وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوسا أطار صوابها العذاب، وأجساما تجاوز الألم بها حد الطاقة، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة: يا مالك. ليقض علينا ربك !

ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل، وبلا رعاية ولا اهتمام:

قال: إنكم ماكثون !

فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء.. إنكم ماكثون!

وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق، المعرضين عن الهدى، الصائرين إلى هذا المصير; ويعجب من أمرهم على رؤوس الأشهاد، في أنسب جو للتحذير والتعجيب.

لقد جئناكم بالحق، ولكن أكثركم للحق كارهون. أم أبرموا أمرا؟ فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون ..

وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه الحق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم; فما عهدوا عليه كذبا قط على الناس، فكيف يكذب على الله ويدعي عليه ما يدعيه؟

والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب أنه الحق، ولكنهم يكرهونه، لأنه يصادم أهواءهم، ويقف [ ص: 3203 ] في طريق شهواتهم، وهم أضعف من أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم; ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته! فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق والاجتراء على الدعاة!

لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت. العليم بما يسرون وما يمكرون:

أم أبرموا أمرا؟ فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون ..

فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته. وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى. والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون، أمام الخالق العزيز العليم.

ويتركهم بعد هذا التهديد المرهوب، ويوجه رسوله الكريم، إلى قول يقوله لهم. ثم يدعهم من بعده لمصيرهم الذي شهدوا صورته منذ قليل:

قل: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين. سبحان رب السماوات والأرض. رب العرش عما يصفون. فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ..

لقد كانوا يعبدون الملائكة بزعم أنهم بنات الله. ولو كان لله ولد لكان أحق أحد بعبادته، وبمعرفة ذلك، نبي الله ورسوله، فهو منه قريب، وهو أسرع إلى طاعة الله وعبادته، وتوقير ولده إن كان له ولد كما يزعمون! ولكنه لا يعبد إلا الله. فهذا في ذاته دليل على أن ما يزعمونه من بنوة أحد لله لا أصل له، ولا سند ولا دليل! تنزه الله وتعالى عن ذلك الزعم الغريب!

سبحان رب السماوات والأرض. رب العرش. عما يصفون ..

وحين يتأمل الإنسان هذه السماوات والأرض، ونظامها، وتناسقها، ومدى ما يكمن وراء هذا النظام من عظمة وعلو. ومن سيطرة واستعلاء. يشير إلى هذا كله قوله: رب العرش .. يصغر في نفسه كل وهم وكل زعم من ذلك القبيل. ويدرك بفطرته أن صانع هذا كله لا يستقيم في الفطرة أن يكون له شبه - أي: شبه - بالخلق. الذين يلدون وينسلون! ومن ثم يبدو مثل ذلك القول لهوا ولعبا; وخوضا وتقحما; لا يستحق شيء منه المناقشة والجدل; إنما يستحق الإهمال أو التحذير:

فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ..

والذي شهدوا صورة منه يوم يكون!

ثم يمضي - بعد الإعراض عنهم وإهمالهم - في تمجيد الخالق وتوحيده بما يليق بربوبيته للسماوات والأرض والعرش العظيم:

وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم. وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وعنده علم الساعة، وإليه ترجعون. ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ..

وهو تقرير الألوهية الواحدة في السماء وفي الأرض، والتفرد بهذه الصفة لا يشاركه فيها مشارك. مع الحكمة فيما يفعل. والعلم المطلق بهذا الملك العريض.

[ ص: 3204 ] ثم تمجيد لله وتعظيم في لفظ " تبارك " أي: تعاظم الله وتسامى عما يزعمون ويتصورون. وهو السماوات والأرض وما بينهما . وهو الذي يعلم وحده علم الساعة وإليه المرجع والمآب.

ويومذاك لا أحد ممن يدعونهم أولادا أو شركاء يملك أن يشفع لأحد منهم - كما كانوا يزعمون أنهم يتخذونهم شفعاء عند الله. فإنه لا شفاعة إلا لمن شهد بالحق، وآمن به. ومن يشهد بالحق لا يشفع في من جحده وعاداه!

ثم يواجههم بمنطق فطرتهم، وبما لا يجادلون فيه ولا يشكون، وهو أن الله خالقهم. فكيف حينئذ يشركون معه أحدا في عبادته، أو يتوقعون من أحد شفاعة عنده لمن أشرك به:

ولئن سألتهم من خلقهم؟ ليقولن الله. فأنى يؤفكون ؟

وكيف يصرفون عن الحق الذي تشهد به فطرتهم ويحيدون عن مقتضاه المنطقي المحتوم؟

وفي ختام السورة يعظم من أمر اتجاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لربه، يشكو إليه كفرهم وعدم إيمانهم. فيبرزه ويقسم به:

وقيله. يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ..

وهو تعبير خاص ذو دلالة وإيحاء بمدى عمق هذا القول، ومدى الاستماع له، والعناية به، والرعاية من الله سبحانه والاحتفال.

ويجيب عليه - في رعاية - بتوجيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفح والإعراض، وعدم الاحتفال والمبالاة. والشعور بالطمأنينة. ومواجهة الأمر بالسلام في القلب والسماحة والرضاء. وذلك مع التحذير الملفوف للمعرضين المعاندين، مما ينتظرهم يوم ينكشف المستور:

فاصفح عنهم، وقل سلام. فسوف يعلمون ..

التالي السابق


الخدمات العلمية