صفحة جزء
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26) ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35) فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)

هذا المقطع الأخير من السورة يعرض مقولة المشركين عن الآخرة وعن البعث والحساب. ويرد عليها من واقع نشأتهم الذي لا مجال لإنكاره، وهو واقع قريب منهم. ثم يعرض مشهدا من مشاهد القيامة، يرونه [ ص: 3232 ] واقعا بهم - وإن كان لم يحن بعد موعده - لأن التصوير القرآني يعرضه حيا شاخصا كأنهم يرونه رأي العين من خلال الكلمات.

ثم تختم السورة بالحمد لله، الواحد الربوبية في السماوات وفي الأرض ولجميع العالمين في السماوات والأرض، وتمجيد عظمته وكبريائه المتفردة في السماوات والأرض، لا ترتفع أمامها هامة، ولا يتطاول إليها متطاول.. وهو العزيز الحكيم..

وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر، وما لهم بذلك من علم، إن هم إلا يظنون،وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين. قل: الله يحييكم ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..

هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة القصيرة. الحياة في نظرهم هي هذا الشوط الذي يرونه في الدنيا رأي العين. جيل يموت وجيل يحيا; وفي ظاهر الأمر لا تمتد إليهم يد بالموت، إنما هي الأيام تمضي، والدهر ينطوي، فإذا هم أموات; فالدهر إذن هو الذي ينهي آجالهم، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون!

وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر، ولا تبحث عما وراءها من أسرار. وإلا فمن أين جاءت إليهم الحياة، وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم؟ والموت لا ينال الأجسام وفق نظام محدد وعدد من الأيام معين، حتى يظنوا أن مرور الأيام هو الذي يسلبهم الحياة. فالأطفال يموتون كالشيوخ والأصحاء يموتون كالمرضى. والأقوياء يموتون كالضعاف. ولا يصلح الدهر إذن تفسيرا للموت عند من ينظر إلى الأمر نظرة فاحصة، ويحاول أن يعرف، وأن يدرك حقيقة الأسباب.

لهذا يقول الله عنهم بحق:

وما لهم بذلك من علم. إن هم إلا يظنون :

يظنون ظنا غامضا واهيا، لا يقوم على تدبر، ولا يستند إلى علم، ولا يدل على إدراك لحقائق الأمور.

ولا ينظرون إلى ما وراء ظاهرتي الحياة والموت من سر يشهد بإرادة أخرى غير إرادة الإنسان، وبسبب آخر غير مرور الأيام.

وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات، ما كان حجتهم إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين ..

وهذه كتلك تدل على نظرة سطحية لا تدرك نواميس الخلق، وحكمة الله فيها، وسر الحياة والموت الكامن وراءهما، المتعلق بتلك الحكمة الإلهية العميقة. فالنس يحيون في هذه الأرض ليعطوا فرصة للعمل وليبتليهم الله فيما مكنهم فيه. ثم يموتون حتى يحين موعد الحساب الذي أجله الله، فيحاسبوا على ما عملوا، وتتبين نتيجة الابتلاء في فترة الحياة. ومن ثم فهم لا يعودون إذا ماتوا. فليست هنالك حكمة تقتضي عودتهم قبل اليوم المعلوم. وهم لا يعودون لأن فريقا من البشر يقترحون هذا. فاقتراحات البشر لا تتغير من أجلها النواميس الكبرى التي قام على أساسها الوجود! ومن ثم فلا مجال لهذا الاقتراح الساذج الذي كانوا يواجهون به الآيات البينات: ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين !

ولماذا يأتي الله بآبائهم قبل الموعد الذي قدره وفق حكمته العليا؟ ألكي يقتنعوا بقدرة الله على إحياء الموتى؟ يا عجبا! أليس الله ينشئ الحياة أمام أعينهم إنشاء في كل لحظة، وفق سنة إنشاء الحياة؟

قل الله يحييكم، ثم يميتكم، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ..

[ ص: 3233 ] هذه هي المعجزة التي يريدون أن يشهدوها في آبائهم. ها هي ذي تقع أمام أعينهم. بعينها وبذاتها. والله هو الذي يحيي. ثم هو الذي يميت. فلا عجب إذن في أن يحيي الناس ويجمعهم إلى يوم القيامة، ولا سبب يدعو إلى الريب في هذا الأمر، الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم:

ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..

ويعقب على هذه الحقيقة الماثلة بالأصل الكلي الذي ترجع إليه:

ولله ملك السماوات والأرض ..

فهو المهيمن على كل ما في الملك. وهو صانع كل شيء فيه. وهو القادر على الإنشاء والإعادة لكل ما فيه وكل من فيه.

ثم يعرض عليهم مشهدا من هذا اليوم الذي يشكون فيه:

ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون. وترى كل أمة جاثية. كل أمة تدعى إلى كتابها. اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق. إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ..

إنه يعجل لهم في الآية الأولى عاقبة المبطلين. فهم الخاسرون في هذا اليوم الذي يشكون فيه. ثم ننظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة، وقد تجمعت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذ الكوكب في عمره الطويل القصير! وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة. في ارتقاب الحساب المرهوب.. وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد. ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب. ومرهوب بما وراءه من حساب. ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر، والمنعم المتفضل، الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين!

ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق. يقال لها:

اليوم تجزون ما كنتم تعملون. هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق. إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .. فيعلمون أن لا شيء سينسى أو يضيع! وكيف وكل شيء مكتوب. وعلم الله لا يند عنه شيء ولا يغيب؟!

ثم تنقسم الحشود الحاشدة والأمم المختلفة، على مدى الأجيال واختلاف الأجناس فريقين اثنين. فريقين اثنين يجمعان كل هذه الحشود: الذين آمنوا. والذين كفروا. فهاتان هما الرايتان الوحيدتان عند الله وهذان هما الحزبان: حزب الله. وحزب الشيطان. وما عدا هذا من الملل والنحل والأجناس والأمم فإليهما يعود:

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيدخلهم ربهم في رحمته. ذلك هو الفوز المبين ..

وقد استراحوا من طول الارتقاب، ومن القلق والاضطراب.. والنص ينهي أمرهم في سرعة وفي بساطة، ليلقى هذا الظل المستطاب.

ثم نلقي بأبصارنا - من خلال الكلمات - إلى الفريق الآخر. فماذا نحن واجدون؟ إنه التأنيب الطويل، والتشهير المخجل، والتذكير بشر الأقوال والأعمال:

وأما الذين كفروا. أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، فاستكبرتم، وكنتم قوما مجرمين؟ وإذا قيل: إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها. قلتم: ما ندري ما الساعة! إن نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين !

فالآن كيف ترون الحال؟! وكيف تذوقون اليقين؟!

[ ص: 3234 ] ويتركهم السياق لحظة ليعلن على الملإ شيئا مما يقع لهؤلاء المنكوبين:

وبدا لهم سيئات ما عملوا، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ..

ثم يعود إليهم بالترذيل والتأنيب وإعلان الإهمال والتحقير; والمصير الأليم:

وقيل: اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا. ومأواكم النار. وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا، وغرتكم الحياة الدنيا ..

ثم يسدل الستار عليهم بإعلان مصيرهم الأخير. وهم متروكون في جهنم لا يخرجون ولا يطلب إليهم اعتذار ولا عتاب:

فاليوم لا يخرجون منها، ولا هم يستعتبون ..

وكأننا نسمع مع إيقاع هذه الكلمات صرير الأبواب وهي توصد إيصادها الأخير! وقد انتهى المشهد، فلم يعد فيه بعد ذلك تغيير ولا تحوير!

هنا ينطلق صوت التحميد لله والتمجيد الانطلاقة الأخيرة في السورة بعد هذا المشهد المؤثر العميق:

فلله الحمد. رب السماوات. ورب الأرض. رب العالمين. وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ..

ينطلق صوت التحميد. يعلن وحدة الربوبية في هذا الوجود. سمائه وأرضه. وإنسه وجنه. وطيره ووحشه. وسائر ما فيه ومن فيه. فكلهم في رعاية رب واحد يدبرهم ويرعاهم وله الحمد على الرعاية والتدبير.

وينطلق صوت التمجيد. يعلن الكبرياء المطلقة لله في هذا الوجود. حيث يتصاغر كل كبير. وينحني كل جبار. ويستسلم كل متمرد. للكبرياء المطلقة في هذا الوجود.

ومع الكبرياء والربوبية العزة القادرة والحكمة المدبرة.. وهو العزيز الحكيم .. والحمد لله رب العالمين.

[ ص: 3235 ] [ ص: 3236 ] انتهى الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون مبدوءا بسورة الأحقاف

التالي السابق


الخدمات العلمية